** لقد أسرني بلغته المباشرة الواضحة وبعبارته الرشيقة السهلة البسيطة وذلك التناول الرائع لأدق تفاصيل حياة ذلك المجتمع الذي عاش فيه وانصهر في ذرات تكوينه قبل أكثر من نصف قرن بذلك الاستخدام المكثف للكلمة في معانيها وإيحاءاتها المجنحة نحو الجميل من القول، لقد استطاع أن يعيد لنا رائحة ذلك الزمن بتلك الدروب التي تشق تلك الأحياء والأزقة برطوبتها وبزخم تلك "المباخر" النافذة والتي يتخلل عبقها من تلك الخصاص في تلك "الرواشين" فهذه "رائحة" "الجاوي" التي تحرص ربة البيت على أن تضعه على ذلك الجمر عند الغروب وتلك رائحة "المستكة" التي تضعها سيدة المنزل في الضحى "لتبخير" كاسات ومغاريف وهي أواني شرب الماء وتلك رائحة "العودة" التي توضع في ليالي الشتاء للدفء وتعطير ملابس الزوج قبل ذهابه إلى صلاة "الجمعة" فتتحول تلك الأزقة إلى ما يشبه "الخميلة" الفواحة بتلك الروائح الزكية، نعم لقد طاف بنا في تلك الأزقة المرصوفة بذلك الحجر الأسود مربع أو مستطيل الشكل الذي يغطي أرضيتها "المرشوشة" بماء "قرب" الزفة التي يحملها "السقا" على كتفه وهو يدندن "يا مسهل" في حركة فيها الكثير من الوداعة والرقة. لقد استطاع أن يعيد إلى الذاكرة تلك الشخوص التي كانت تملأ الشوارع والأحياء كأنها أمامي الآن: شخوص يتحركون على "شاشة" الذاكرة فهذا بائع العطارة بكل أنواعها لديه كل ما تحتاج إليه من أدوية لمعظم الأمراض وذلك الصيرفي الذي يترك "دكانه" مفتوحا ليذهب إلى المسجد لأداء صلاته دون خوف من أن تمتد يد خائنة لتأخذ منه شيئاً، وأنا أبحر في صفحات ذلك الكتاب تساءلت لماذا لم يدون لنا رواية عن كل تلك الحياة بصورها وبحركة الناس وهو على هذه القدرة من التقاط كل تلك الحياة والعارف بحركة الناس وبحركة الشارع في ذلك الزمن "البهي" لو فعل لوجدنا "زقاقاً للمدق" آخر أو "بين القصرين" بمسمى آخر هو بين "شارعين" وهو القادر على ربط العلاقة بين شارع سويقة أو جو المدينة وشارع "العيينة" المتلازمين لو فعل ذلك لكسبنا "راوئيًّا" يكتب لنا أروع "الروايات" ولالتقط تلك "الحوادث" وتلك "السهرات" في بساتين المدينة ولأوجد لنا كثيرًا من صور محمد عبدالحليم عبدالله في "شجرة اللبلاب". حتى عندما تخطى الحديث عن مرابع صباه ومراهقته كان أكثر نضجا، ها هي القاهرة في ستينيات القرن الماضي بذلك الوهج السياسي والثقافي والغناء والرياضة كانت غير التي يشاهدها في السبعينيات فمن خلال نافذة السيارة الفاخرة وهي تقطع به شوارعها المزدحمة وهو على رأس وفد رسمي راح يصوغ لنا في لمحة "منلوجًا" داخليا جميلا على لسان "البطل" حيث كان يمثل نفسه في ذلك "المنلوج" مع ذلك الرجل العجوز الذي لمحه بعين "الفلاش باك" وهو يخرج من تلك العمارة التي شهدت جزءاً من تحصيله العلمي والاجتماعي أيام دراسته فراح يسرد كل ما أراد توصيله إلى أبنائه وأحفاده من نصائح وتجارب، لقد كانت لحظة أمسك بها بنظرة الفنان في داخله فجمدها على جدار الذاكرة وراح يشرحها بمبضع الجراح الحاذق الذي يملكه بكل جدارة. نعم لقد أسرني بل بهرني بهذا الكتاب الذي قرأته على "مهل" متلذذاً بصوره وحرفيته وصدقه فلم أجد لنفسي فكاكاً من أسره ببساطة تعودتها عند مطالعاتي كثيرا من المؤلفات. لقد كان الدكتور نزار بن عبيد مدني بعيداً عن أي ألقاب رسمية، واحداً من أولئك الذين وضعوا بصمة في عالم السير الذاتية، إن تلك الإيحاءات التي نقشها أو بعثها على صفحات كتابه الموسوم، دبلوماسي من طيبة، محطات في رحلة العمر، كان أكثر من رائع ففي هذا الكتاب الذي تلمح في صياغته ذلك النقل لتلك الأحياء كأحد الرواة العرب يجعلك تمسك بأنفاسك وأنت تلهث خلفه بكل اشتياق، الكتاب قسم إلى ست محطات، أكتفي في هذا العرض بالمحطة الأولى وهي المدينةالمنورة الجذور، أما بقية المحطات الثانية وهي القاهرة التحول، الثالثة جدة التأسيس، الرابعة واشنطن "التأهيل"، الخامسة جدة 2 الانطلاق، المحطة السادسة "الرياض" الحصاد لعل لي فرصة في العودة إلى هذه المحطات في وقت ما إن شاء الله. هامش: سواله بستان في قربان وهو الآن حول جزءاً منه إلى قاعة للأفراح وليس في قباء، البدرية في الطرف الغربي من ضاحية بساتين العوالي وهي من - العوالي وليس قباء.. للإيضاح فقط.