استبعد المؤرخ التونسي الشهير محمد حبيب الهيلة أن تكون المدرسة المكية تأثرت بأي من المدارس الأخرى التي غزت المنطقة إبان الخلافة العثمانية، مؤكدا أنها وقفت صلبة في وجه كل غزو. وقال في كلمته خلال تكريمه في اثنينية خوجه (البعض يردد أن المدرسة المصرية أثرت تاريخيا على المدرسة المكية، لكن الحقيقة عكس ذلك، فلم تكن مصر إلا وسيطا بين المدرسة المكية والسلطة العثمانية)، مشيرا إلى ان السر في بقائها أنها لم تكن مدرسة سياسية بل علمية، وليست تابعة لأي بلد من البلدان. وأضاف كل التوجهات ما أن تدخل مكةالمكرمة حتى تذوب وتصبغ بمدرستها الأصيلة، مشيرا إلى بقاء القراءة الحجازية حتى الآن. وكان ابن بطوطة القرن الواحد والعشرين لم يتمالك نفسه عندما تذكر ارتباطه بمكةالمكرمة منذ كان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات. واضطر الأكاديمي والمؤرخ والفقيه الإسلامي والزيتوني محمد الحبيب الهيلة إلى التقاط أنفاسه للحظات بعدما داهمته الدموع، قبل أن يسترد انفاسه لإكمال كلمته التي بدأها بتحديد ارتباطه بمكةالمكرمة منذ عهد والده الذي كان على صلة بأحد المطوفين. وفيما خصص الضيف الجزء الأكبر من الكلمة عن المكانة العلمية لجامع الزيتونة قبل المرحلة الحرجة التي عاشها تحت عنفوان الاحتلال الذي لا يعرف قيمة العطاء والتاريخ الإسلامي، وقال أنهم: دنسوا شهاداتي على الأرض، ولم يعترفوا بها إبان غزو البلاد، لكن الملفت للنظر أنني عندما ذهبت إلى بلادهم في باريس لنيل الدكتوراه تعجب المستشرق المسئول من التصنيف العلمي عن السبب الذي يدعو زيتوني لطلب العلم من فرنسا (...)، فأبلغني كيف لزيتوني صاحب المكانة الرفيعة ممن يعلمون الآخرين أن يطلبون العلم، فأخبرتهم أنني أريد تعلم المنهج، عندها طلب مني أن أذهب وأسجل أطروحتي كيفما أشاء. واتهم الاستعمار الفرنسي بأنه حاول تغييب العلم الإسلامي، لأنهم (يريدون عنوانا فرنسيا أجنبيا، رغم قناعتهم بأهمية علومنا). واعتبر الإخلاص في العلم السبب الذي يفتح أبواب الرزق أمام المتعلمين، مضيفا أنه عندما اشتد به الحال اضطر للجوء لمكان قصي بين جبل وبحر فجاءني من يبلغني أنني دعيت للتدريس في مكةالمكرمة بجامعة أم القرى، فلم أجد نفسي إلا وقد رددت الأغنية المصرية الشهيرة .. دعاني لبيته، لحد باب بيته. وكشف أنه رفض عروضا مغرية وقتها للتدريس في فرنسا من أجل مجاورة البيت الحرام، وقال "أغروني بعروض خيالية (...)، لكن شرف لي العمل عامل صيانة في المسجد الحرام على أن يدعوني أستاذ دكتور في أي مكان آخر". وكان الدكتور محمود زيني وصف الهيلة بأنه ابن بطوطة هذا العصر، في إشارة على ما شكلته رحلاته المكوكية بين بلاد الحرمين الشريفين والغرب العربي ممن تواصل على صعيد العلوم الإسلامية.وفيما اعتبر الهيلة أهل مكةالمكرمة الأحب إلى قلبه، بحكم أنه حجازي الهوى، طالبهم بالتمسك بصفاتهم التي لا تتوفر عند سواهم، وقال: أدعوهم للتمسك بتربية الآباء والأجداد التي كان محورها عدم التفريق بين الأجناس، اتباعا للمنهج الإسلامي في الأخوة بين المسلمين. وكان مؤسس الاثنينية عبد المقصود خوجة بدأ الأمسية بالتأكيد على خطر الفتوى الشاذة، وحاجة المسلمين للوسطية، وأهمية استمرار التناقح الفكري. فيما تناول الدكتور محمد عبده يماني الصفات التي يتمتع بها الضيف، قبل أن يعلق لاحقا على نصيحة الهيلة لأهل مكةالمكرمة، وقال:وكأنك تقول ان فلاحنا في التفافنا حول أم القرى، نعم القضية خطيرة، فإما أن نستشعر أننا قلب هذا العالم، ونؤدي دورنا على هذا المنوال، وإما لا. وأشار يماني إلى محاربة القراءة الحجازية من البعض، وقال: اعتبروها تغنيا بالقرآن، لذا انحسرت، الأمر الذي يدعونا إلى الالتفاف حول أم القرى. وكانت الأمسية تخللها العديد من الكلمات بدأتها من الجانب النسائي تلميذة الهيلة في جامعة أم القرى الدكتورة لمياء الشافعي التي تذكرت كلمات أستاذها بأن الأطروحة لا تكون أطروحة إلا إذا حملت الجديد، وقالت: احترت كيف لي من جديد في علم التاريخ الذي لا يحمل إلا كل قديم، لكنه دلني على المعنى الصحيح للجديد. أما راعي الحفل عضو هيئة كبار العلماء الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان فاسترسل في وصف المكانة العلمية للهيلة الذي يعد ثالث ثلاثة من مصابيح الزيتونة. فيما اعتبره رئيس النادي الأدبي في مكةالمكرمة الدكتور سهيل قاضي أحد الثمرات التي أنعم بها الله عز وجل على بلاد الحرمين الشريفين. وقال في تعقيب له إنه كما أرخ لمكةالمكرمة، نعاهده على أننا سنؤرخ سيرته العطرة، لكنه تحفظ على تعليق مؤسس الاثنينية حول ما إذا كان ذلك إعلانا بتبني النادي لطباعة أطروحات الهيلة.