جدّد الشاعر السعودي محمد العليّ، الذي أحيا أمسية شعرية أعقبها لقاء مفتوح بشأن تجربته في جامعة الملك سعود، اتهامه الغذّاميّ بأنه مدّعٍ وأن الحداثة ليست من صنع أحد. وقال «إنّ الدكتور عبدالله الغذّامّي ليس عنده هدف بناء مدرسة نقدية، بل هدف بناء ذاته. وهذا الشيء فادح وهو أن تكون طاقة رائعة مثل طاقة الغذّاميّ ثم تتسرب إلى شيء ذاتي وشيء عبثي. لا أحد سوى الذات عند الغذّاميّ. دائماً ينشد في داخله: إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير، ولكن لا أرى أحداً». الانصياع والتسليم أولاً والاقتناع ثانياً يخرج الِسجال بين الغذّاميّ والعليّ من المنازعة الحِجاجية المحتكمة إلى العقل والمسلمات المشتركة للطرفين إلى دائرة الاستهواء بما فيها من الاستمالة والمشاحنة والمغالطة. و«الاستهواء منطقة ملتبسة بين الإقناع الحِجاجيّ بمعناه الدقيق، وبين العنف اللغويّ التخييليّ والمرجعيّ، وهو إيجابيّ الدلالة لكونه بديلاً حضارياً للعنف في موقع يشرف على تلك الصفات».(7) ويمكن تصنيف سِجالية العليّ والغذّاميّ هذه بأنها تندرج في إطار حِجاج القوة، وهذا النمط من الحِجاج هو احتجاج يسعى صاحبه إلى حمل المخاطب على سلوك معين أو على عمل معين، سعياً يستند إلى التهديد، منه يستمد الحجة وعلى أساسه يسأل الاقتناع الذي يتخذ في نهاية الأمر شكل الاستسلام فيفعل المخاطب ما أُمِر به خشية العقاب ولا يعني المتكلم عندئذ إن كان المخاطَب مقتنعاً بما تحقّق منه أو لا.. بل المهم أن يتحقّق ما يرى هو وجوب تحققه. وكثيراً ما يغلب هذا المنحى في الحِجاج على الخطابات المتسلطة مثل الخطاب التربوي أو الديني أو السياسي. ذلك أنّ أهم ما تسعى إليه هذه الخطابات إنما هو الانصياع والتسليم، أمّا الاقتناع فإنه يأتي في مرحلة ثانية.(8) لقد صنفنا سِجالية العليّ والغذّاميّ ضمن حِجاج أو سِجالية القوة بسبب سمة الخطاب الاستعلائي الصادر عن كلا الطرفين ذي الطبيعة الكلية الشمولية، ما خلق خروجاً عن دائرة الحوار إلى دائرة المطلق بادعاء المعرفة الكاملة أو الحقيقة الكاملة، والسعي إلى فرضها على الآخرين أو تعويض ذلك كله بعنف مادي مكسو بالألفاظ: من قبيل التهديد، القذف، والعنف التخييلي الرمزي.(9) وتبدأ السِجالية عند محمد العلي بالاحتجاج بالسلطة والمقصود بهذا النوع من الحِجاج: معنى قريب من الخبرة المعرفية، أي أن تكون للشخصية المتكلِمة - أي مُرِسل الخطاب - قدم راسخة وباع طويل في المجال الذي يتحدث فيه. وهذا النوع من الِحجاج المعرفي/العلمي يمكن أن يُضاف إليه الاحتجاج المستمد من المكانة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي يتمتع بها المتكلم. فلئن كانت سلطة الخبرة موقعة أحياناً في المغالطة نظراً إلى طابع النسبية فيها؛ لأنه مهما بلغت خبرة المتكلم فلابد أنّ في الوجود خبرة تفوقه وبإمكانها أن تكشف ثغرات في حجاجه، فإن السلطة الاجتماعية أو السياسية اللتين قد ترجحان في مقام معين حجاجاً ما، لا يخلو ترجيحهما هو الآخر من مغالطات غالباً ما تكون أجلى أو أضعف من السلطة السابقة أو من سلطة لاحقة. لذا، فإنَّ الاحتجاج بالسلطة يطرح مشكلات سياقية ونفسية ومنطقية تعمل أحياناً على تعميق طابع المغالطة فيه. ويتميز هذا الحِجاج من جهة أخرى بأنه احتمالي ويستمد فاعليته من مكانة الشخص - السلطة - الذي أصدره، وهذا مكمن المغالطة فيه؛ لأن الملقى إليهم الخطاب قد يعتبرون المتكلم من التمكن والسمو بحيث يستحيل عليه الخطأ أو التناقض أو التلاعب بعقولهم، وهذا في حد ذاته خطأ، إذ لا يوجد أحد في حصانة من الانزلاق إلى هذه الأمور.(10) واستطاع العليّ - ومنذ البدء - بآلية جذب تسويقية، استثمار فضاءات التلقي المتاح له، وهما فضاءان عريقان جداً في تأويلاتهما الثقافية: الفضاء الأول جامعة الملك سعود العريقة التي تجمع في أروقتها الحداثي بالتقليدي جداً، والتي كان عدد من أعضائها أطرافاً بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالحداثة ومعركتها الكبرى في السعودية. والفضاء الآخر النادي الأدبي الثقافي في جدة، وهو واحد من أبرز الأندية العريقة في المملكة وأكثرها فاعلية ونشاطاً وقد جاء ذكره في حكاية الغذّاميّ عن «الحداثة في المملكة العربية السعودية». وسيلاحظ المرء تغزل العليّ عند قدومه إلى جدة بالبيئة الحجازية المتفردة.(11) وسينطلق كلام العلي عن «الحداثة السعودية»، وعن ريادة الغذّاميّ النقدية من منطق الأبوة الحداثية، وإن أنكر في أكثر من لقاء هذه الأبوة. إنّ الأب الحداثيّ هنا يستمد خطابه من منطق سِجالية القوة وحِجاجية السلطة بما فيه من إغواء وعنف مادي متسيد لإخضاع المتلقي الضمني إلى خطابه. من بلاغة الصمت إلى العنف وسيرفض الغذّاميّ بدءاً الانزلاق في مثل هذا النوع من الخطاب، ولذا سيرفض التعليق على ما أبداه العليّ من نقد لاذع له، ولكن يبدو أنّ نشر انتقادات العليّ في صحيفة واسعة الانتشار هي «الحياة» وانتشار هذه الانتقادات كذلك في الشبكات الالكترونية السعودية أشعل السِجال الذي بدأ برد الغذّاميّ على العليّ ب «أن حصانه مسرج لكن الطريدة هزيلة». وهنا سينزلق خطاب الغذّاميّ الذي آثر بدءاً بلاغة الصمت سينزلق هذا الخطاب إلى مقام العنف الرمزي بالآتي: .1 سياق الاستشهاد والتمثيل الشعبيّ: فالغذّاميّ الذي يدرك سطوة الشعر النبطيّ والأمثولات الشعبية في بيئة الجزيرة العربية سيستعير المثل الشعبي «ما ني قليل شر» تدليلاً منه لنسق مضمر هو قوته السِجالية التي لن يظهرها الآن بعد أن آثر بلاغة الصمت. .2 الاستشهاد بنظير مماثل: فالغذّاميّ يماثل مطلق الذيابي الشاعر السعودي الذي اعتدى أحدهم على قامته وقيمته فرد عليه بمقالة «حصاني مُسرج ولكن الطريدة هزيلة». فإذن الغذّاميّ يقول في هذا المقام أيضاً «أحمد الله أنه منحني أحصنة كثيرة مسرجة، لكن أحصنتي ليست لملاحقة الطرائد الهزيلة». .3 نفي الخصم المساجِل وإلغاء كينونته: إنّ الغذّاميّ الذي احتفى بالعليّ بوصفه أحد رواد الحداثة في السعودية سينفي كينونته تماماً عندما لا يعده كفؤاً لخصومته أصلاً. يقول الغذّاميّ «من الممكن أن ألاحق الأسود أو ألاحق النجوم العوالي أو أتحدث عن أبي الطيب المتنبي وأدونيس ونزار وأقول إنهم نسقيون أما سواهم فلا»، وكما يقول المتنبي: «وشر ما قنصته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه والرخم». .4 المغالطة واللعب بالكلمات (التورية): من آليات المغالطة/المغالطات هي في بنيتها المشتركة إيهام بوجود منطق ومعنى وإخفاء الانحراف عنهما. من الآليات التي تحدث عنها أرسطو في تتبعه للمغالطات السفسطائية: الانزلاق من معنى إلى معنى آخر لكلمة واحدة لإيقاع الوهم بأنّ المعنى واحد، أو: ما يصدق على ذاك. من ذلك قول بعضهم: «فلان من قبيلة كلب، والكلب خسيس، فهو خسيس(12). وكانت النقطة الأبرز في هذا الرد هي كشف العليّ ازدواجية الغذّاميّ النقدية ففي الحين الذي وصف فيه المتنبي بالفحولة النسقية يعود ويستشهد به في سياق الرد على العليّ. إن العليّ الذي آمن بشعرية المتنبيّ يستشهد ببيت له رداً على بيت للمتنبي استشهد به الغذّاميّ مما يعزز سِجالية القوة الكامنة والظاهرة في سجالية الاثنين، وارتكاز هذه الِحجاجية على ''المحاجة الجماهيرية''، ومغالطة هذا الحِجاج تكمن في أنّ التركيز على سلامة البناء الحِجاجي يكون ضئيلاً؛ فالمتكلم لا يعنيه أن يبني حجته البناء الذي يمكن أن يصل به إلى حقيقة موضوعية على أساس مقدمات حرص أن تكون صحيحة حتى يصل إلى نتائج يقينية، فاهتمام المحاجج منصب كله على ما يضمن اعتناق الجمهور لفكرته والتحمس لها.. فهو إذاً غاية ووسيلة: غاية لأنّ الحجة الجماهيرية إنما تجري إليه، ووسيلة لأنه يستر غياب المحاججة عند غيابها ويغطي على غياب العلاقة بين المضامين»(13). وسينتهي سِجال العليّ والغذّاميّ بمفارقة عجيبة هي صمت الأول الذي لاذ أخيراً إلى بلاغة الصمت وبيان الآخر الذي آثر الإفصاح والتعليق والتدليل والتأكيد بأن ما حدث ليس سِجالاً وليس حواراً لعدم توفر شرط الخصومة العلمية. ولئن كان سِجال الاثنين قد انتهى هذه النهاية فقد كانت تعقيبات المثقفين السعوديين الحداثيين طرفاً في هذا السِجال وتعقيب بعض النقاد العرب وهو طرف يشمل المنتج والفاعل والمتلقي معاً.(14) أثار مشروع الغذّاميّ النقدي الخاص بالنقد الثقافي في كتابه «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية» ردود فعل نقدية مضادة، ولاسّيما أن الغذامي دعا في هذا الكتاب إلى موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي محله. وهي الدعوة التي سيتمسك بها حتى بعد مرور ما يقارب تسع سنوات على تبشيره بمشروعه النقدي وتسويقه إياه عربياً، خصوصاً في المغرب والبحرين، اللتين شهدتا بروز جماعات نقدية غذامية تتبنى اتجاه الغذامي، وحتى مع انشغالات الغذامي بمشروعات أخرى عن ثقافة الصورة في كتابه «الثقافة التلفزيونية»، والسيرة الذاتية في سيرته مع «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» وأخيراً اشتغاله على خطاب القبيلة في كتابه «القبيلة والقبائلية» الذي اتخذ شكل مقالات تصدر أسبوعياً في الملحق الأدبي لصحيفة «الرياض». لن يتراجع الغذامي عن مشروعه وسيتمسك بفكرة موت النقد الأدبي التي كرّر الدعوة إليها مرة أخرى في مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. كان وقوفنا في هذه الورقة على آليات السِجال الخاصة بتطبيقات النقد الثقافي عربياً، وقد خصصنا الحديث عن أنموذج تطبيقات النقد الثقافي واشتغالاته عند الغذّامي وذلك في سجاليتين؛ الأولى سِجالية الغذّاميّ مع عبدالنبي اصطيف، وتعد أنموذجاً دالاً على السِجال العلمي الموضوعي عندما يستند إلى جهاز حجاجي مفاهيمي للوصول إلى المتلقي الضمني للسجالية. أمّا السِجالية الأخرى فقد كانت بين الغذّاميّ والعليّ، وهي أنموذج دالٍ على مزالق السِجال والشغب الثقافي في معركة الحداثة بالمملكة العربية السعودية. وهذه السِجالية التي صنفناها في سياق سجاليات القوة بسبب سمت الخطاب الاستعلائي الصادر عن طرفيها وانتهت أخيراً ببلاغة الصمت ليست من السجاليات التي يحتاجها المشهد النقدي العربي المعاصر. إنّ الحاجة الآن أكيدة لسجالات ناجعة ذات أثر فاعل منفتح على الأطياف الإبداعية والنقدية كافة لتخليق إسهام حقيقي في مسيرة النقد العالمية في مرحلة ما بعد الكولونيالية. الهوامش: (7) محمد العمري. دائرة الحوار ومزالق العنف: كشف أساليب الإعنات والمغالطة: مساهمة في تخليق الخطاب، ص .13 (8) محمد النويري. «الأساليب المغالطية مدخلاً في نقد الحجاج»، ص .426 (9) دائرة الحوار ومزالق العنف، ص .73 (10) الأساليب المغالطية في الحِجاج، ص 423؛ ومحمد سالم محمد الأمين الطلبة. الحجاج في البلاغة المعاصرة: بحث في بلاغة النقد المعاصر، ص .200 (10) وصف صاحب القصيدة الشهيرة «لا ماء في الماء» حضور أمسيته في نادي جدة الأدبي بأنهم «يتمتعون بمستوى رفيع، من حيث المعرفة وذهنية التقبل، وآلية طرح الأسئلة، ومدى تقبل الإجابة». وأرجع ذلك إلى «اختلاف المنطقة عما سواها، نظراً إلى عراقة الحجاز وتراثها الإنساني واتصالها بالروافد الأدبية وارتفاع مستوى الذهنية الحاضرة». «الحياة» السعودية 23 نوفمبر/ تشرين الثاني .2008 (11) دائرة الحوار ومزالق العنف، ص .26 (12) الأساليب المغالطية مدخلاً في نقد الحِجاج، ص .429 (13) تعقيبات المثقفين السعوديين الحداثيين والعرب على سجالية العليّ والغذّاميّ: (14) «الحياة» اللندنية. الاثنين 16 يونيو/ حزيران .2008