الجغرافيا تتلاحم بالتاريخ    تعزيزاً للأمن الغذائي وسلاسل الإمداد.. 80% حصة «سالك» في «أولام الزراعية»    مليار ريال لمستفيدي «سكني»    شهر الأسواق والمسلسلات    ترامب: واشنطن تجري مباحثات جدية مع بوتين.. الحرب الروسية – الأوكرانية تقترب من النهاية    السودان: الجيش يسيطر على جسر سوبا    دعماً للانتقال السياسي والتعافي الاقتصادي.. الاتحاد الأوروبي:.. تعليق عقوبات على قطاعات سورية حيوية    في الجولة ال 22 من دوري روشن.. قمة تجمع الأهلي والقادسية.. والهلال لمداواة الجراح أمام الخلود    العروبة يتغلب على ضمك.. والفتح يواصل صحوته    بمشاركة 23 دولة خليجية وعربية وأوروبية .. وزارة الرياضة تستضيف الملتقى العربي لكرة القدم المصغرة    يوم التأسيس "مكان التاريخ"    «وِرث» يجسّد الفنون التقليدية في سباقات الخيل    ضرورة التجديد    الشعبنة    بريد الهوى    اختلاف طباع الناس    الحكومة التنزانية تختار السديس "شخصية 2024" لحامل القرآن الكريم    الصحة تؤكد على التطعيم ضد الحمى الشوكية قبل العمرة    غزارة الدورة الشهرية (1)    وزارة الصحة تؤكد أهمية التطعيم ضد الحمى الشوكية قبل أداء العمرة    الجلاجل يبحث في إندونيسيا التعاون في السياحة العلاجية وتعزيز خدمات الحجاج    الزم موقعك.. ملحمة مهمة العوجا    حجاب وعد.. قرار نهائي أم مرحلة جديدة من الجدل؟    خادم الحرمين: تحديات العمل الإنساني لا يمكن تجاوزها إلا بتضافر جهود المجتمع الدولي    ابن فرحان يستعرض مع ونستون العلاقات الثنائية    الارتقاء بصناعة الخير    خطة جوزيف بيلزمان لغزة تستثير الموقف العربي من جديد    عندما تكون الرياض مركز التوازنات    بلدية وادي الدواسر تحتفي ب «يوم التأسيس»    مخاطر العرض.. تدعم أسعار النفط    الأسمنت الأخضر أحدث تحولات الطاقة النظيفة بالمملكة    فعاليات متنوعة احتفاءً بيوم التأسيس بمحافظة عفيف    مرات تحتفل بيوم التأسيس    أمير القصيم يستقبل سفير تايلند    القيادة تهنئ رئيس إستونيا    "الأحوال المتنقلة".. اختصار الوقت وتقليل الجهد    فحص حافلات شركات النقل استعداداً لموسم رمضان    محافظ الزلفي: يوم التأسيس تاريخ عريق    جامعة الملك سعود توقع مذكرة تعاون مع مركز زراعة الأعضاء    طفلة محمد صلاح تظهر في مسلسل رمضاني    رئيس هيئة حقوق الإنسان: السعودية حريصة على نصرة القضايا العادلة    ما هذا يا جيسوس ؟    مسؤولية بريطانيا التاريخية أمام الدولة الفلسطينية !    الرواية وجائزة القلم الذهبي    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تحتفل بيوم التأسيس    جمعية الملك فهد الخيرية النسائية في جازان تحتفي بيوم التأسيس لهذا العام 2025م    "مفوّض الإفتاء بمنطقة حائل" يلقي محاضرة بعنوان "نعمة تأسيس الدولة السعودية"    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير إدارة جوازات المحافظة    النيابة العامة تحتفي بمناسبة يوم التأسيس    الزواج ليس ضرورة.. لبنى عبدالعزيز: الأمومة مرعبة والإنجاب لا يناسب طموحاتي المهنية    أمير الرياض يعزي جبران بن خاطر في وفاة والدته    أمانة تبوك توفر 260 بسطة رمضانية في 13 موقعاً    "الشؤون الإسلامية" تنهي فرش 12 جامعا بمنطقة القصيم    الرياض: ضبط 4 وافدين لممارستهم أفعالاً تنافي الآداب العامة في أحد مراكز «المساج»    زياد يحتفل بعقد قرانه    وقفات مع تأسيس السعودية وتطورها ومكانتها المتميزة    موجة برد صفرية في السعودية.. «سعد بلع» يظهر نهاية الشتاء    مختبر ووهان الصيني.. «كورونا» جديد في الخفافيش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علمني البحر
نشر في البلاد يوم 12 - 08 - 2016

فقد قُدر لي أن أكون في أحد الأيام الماضية في رحلة إلى البحر، استمرت نحواً من 18 ساعة، زانها البعد عن صخب الدنيا، وانقطاع الاتصالات مع كل أحدٍ إلا مع الله، ومع أحبتي الذي كانوا معي.
البحر وما أدراك ما البحر!
إنه مدرسةٌ إيمانية! وفرصة لملء هذا القلب بتعظيم الله، إذ لا صلاح له، ولا سعادة إلا بأن يكون هذا القلب معظماً لله، ومخبتاً لخالقه، مملوءاً بإجلاله وهيبته.
إن السير في البحر، هو من جملة امتثال الأمر الإلهي في القرآن للتفكر والنظر والاعتبار ..
ألم يقل الله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}؟!
ألم يقل الله: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }؟
أم كيف يتم تحقيق اليقين في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} إلا بمثل هذا السير في الأرض، والنظر في ملكوت الله؟!
ألم يمدح الله المتفكرين في خلق السماوات والأرض؟: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
إن السير في الأرض قد يشترك فيه المؤمن والكافر، لكن المؤمن له في كل شيء عبرة، وفي كل أمر فكرة، تذكره بالله، والدار الآخرة وبحقيقة هذه الدنيا ..
المؤمن قد يخرج للنزهة البرية، وقد يمخر عباب البحر، لكنه يعود بفوائد وعوائد إيمانية، هي أعظم مما يقع من أُنْسٍ عارضٍ مع الصحب والأصدقاء ..
لقد ذكرتني عظمة البحر وأنا بين أمواجه عظمةَ خالقه، وأنه لا يخلق العظيم إلا عظيم، جل في علاه.
علمني البحر نعمة التوحيد وأنا أرى الأمواج تتلاطم من حولي وتذكرت حينها قول الله لأ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}!
فالحمد لله الذي جعلنا لا نستغيث إلا به في البر والبحر والجو.
علمني البحر وأنا أمخر عبابه شيئاً من معاني قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، وبقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
سبحان الله!
هل تصورت الأمر؟ هب أن كل شجرة في الأرض، في بره وبحره صارت أقلاماً، ثم تحوّلت هذه البحار العظيمة إلى محابر، فصارت الأقلام تكتب كلمات الله، والبحار من ورائها بحار، ما نفدت ولا انتهت كلماته سبحانه وبحمده.
علمني البحر عظيم فضل الله علينا به، فهو أحد مستودعات الرزق الكبرى في الأرض: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فاللهم اجعلنا من الشاكرين!
علمني البحر وأنا أرى منظر الصيادين يصيدون السمك يسرَ هذه الشريعة حيث أباحت لنا ميتة البحر: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}.
وقلتُ في تفسي وأنا أرى ما يقع لبعض الصيادين من تتابع بعض الأسماك دفعة واحدة في الشبكة أو في السنارة : ماذا لو لم يجز لهذا الصياد أن يأكل إلا ما ذُكي؟!
إذن لفسد أكثر صيده، ولباء بالتعب، فالحمد لله على هذه الشريعة السمحة.
علمني البحر التفكر فيما أرى من آيات الله التي جعلها في هذا البحر: سفنٌ كبارٌ، تحمل آلاف الأطنان من النفط أو الأرزاق .. فتذكرتُ حينها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}! وتذكرتُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }.
هل تأملتَ أيها المؤمن هذه الحِكَم؟ {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ}!
وهل فتشت عن أثر هذا التأمل في تحققك بهذين الوصفين: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } صبّار عن محارم الله، وشكور لنعمه فلم يكفرها.
علمني البحر وأنا أرى طيراً ينقر نقرةً عابرة على سطحه شيئاً من معاني قوله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا عن قصة موسى مع الخضر عليهما السلام المخرجة في الصحيحين : "يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر" أي: لم يأخذ.
علمني البحر أن من يغوص فيه ولو لأمتار قليلة، ويرى هذا التنوع العظيم في أنواع المخلوقات البحرية: فهذه أسماك كبيرة وتلك صغيرة، وهذه ألوانها تأخذ باللب، وتلك شعب مرجانية، وهذه أعشاب بحرية،
وفي كل شيء له آية **** تدل على أنه واحد
إن هذا التنوع في المخلوقات لأعظم دليل على كمال قدرة الله، وعظيم قيوميته، فمن يرزق هذه المخلوقات إلا هو؟ ومن يحفظها إلا هو؟ ومن يقوم عليها إلا هو! إنه الله الذي {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ }؟.
علمني البحر عِلْماً أورثني شعوراً لا أستطيع وصفه!
لقد مرّ من أمام ناظريّ وأنا أرى هذه الأسماك بأحجامها المختلفة وألوانها البديعة المتنوعة أسماء وصور لعلماء ودعاة في الحاضر والغابر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}! فتذكرتُ عظيم فضل الله عليهم حين منّ عليهم بتعليم الناس الخير، وتذكرتُ عندها الحديث الذي صح موقوفاً عن ابن عباس، وروي مرفوعاً من طرق أخرى لا بأس بها: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير".
وهذا لعمر الله الشرف الذي لا يلحقه شرف!
ملائكةٌ! ونمل! وحيتان! لا يعلم عددهم إلا الله تستغفر لمعلم الناس الخير؟!
علمني البحر درساً عظيماً في فهم شيء من معاني قوله تعالى وهو يضرب لنا مثلاً في مآل أعمال الكفار : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
ظلمات بعضها فوق بعض!
لقد رأيت من هذه الظلمات ظلمتين، فهالني الأمر، فكيف بمن غاص ليعيش ظلمات الأخرى؟ إنه مشهد يعز على الوصف!
هذه حقيقة عمل الكافر إذا مات على كفره وإن كان يحمل أعلى الشهادات، أو يتبوأ أعلى المناصب، فهنئياً لمن على التوحيد والسنة.
علمني البحر أنه دواء ناجع لعلاج الكبر!
فمن شعر بشيء من الفخر التعالي على العباد، أو القهر بغير حق، فليحمل نفسه يوماً، ولينطلق إلى هذا البحر ليعرف قدره، وأن الكبر لا يليق إلا بالجبار المتكبر!
لقد تذكرتُ، وأدركتُ شيئاً من حكمة الله أن جعل البحر المحطة الأخيرة في حياة رأس من رؤوس المتكبرين المفسدين في هذه الدنيا: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}!
علمني البحر أن ركوبه فرصةٌ لتنمية عبادة التفكر التي تورث الخوف والرجاء والحب للرب العظيم، وأن هذا التفكر من أعظم ما يبني قواعد الإيمان.
إنني حين أستمع أو أقرأ في حديث كثير من الشباب الذين يشكون من نوازع المعصية، ودوافع الغريزة، وأشعر في كلماتهم حديث الصدق، والخوف من الله = أقول لهم: لا تذهبوا بعيداً، فقلبوا أبصاركم في صفحة الكون، بره وبحره وجوّه ..
دونكم أيها الشباب والفتيات، فإن تربية القلب على عبادة التفكر والتدبر في آيات الله الشرعية والكوينة من أقصر الطرق لصلاح القلب، ودفعِ أمثال هذه الواردات، فإن القلب إذا امتلأ بتعظيم الله، فإنه يوشك أن يستحي أن يستمر في التفكير في معصية الله، فضلاً عن الاستمرار في مواقعتها، وإن وقع فلا يلبث أن يغشاه الحياء والندم، وهكذا في جهاد ومجاهدة حتى تستقر قدمه على الطريق، وإلى أن يلقى ربه؛ لقاء المحب لحبيبه.
اللهم املأ قلوبنا من تعظيمك وإجلالك، وارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة.
د.عمر المقبل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.