من روعة جمال الأمومة هي تلك الكلمات التي تبوح بها لأبنائها وخاصة ..عندما يغيب الابن عن أمه فترة طويلة من الزمن .. بسبب دراسة في الخارج.. او عمل .. او سياحة .فقد كانت أمي من أولئك النسوة الرائعات في التخاطب مع أبنائها بطعم لهفة الأمومة .. التي تفتح شهيتي في الكلام ..ومن تلك الجمل المحببة .. جملة "أهلا وسهلا ببطني الثاني " هكذا يطيب لأمي ان تنادي حين تتحدث عن ولاداتنا..نحن أبنائها وبناتها الثلاثة عشر بطناً.ومن تلك الكلمات التي لا تفارقني منذ طفولتي ..كلمة "خاموش" .. وكثيرا ما وقفت عند هذه التسمية التركية التي تعني انقطاع التيار الكهربائي أو ربما تعني الظلام الدامس أو شدة الحرارة .. وهي كلمة صادفت ولادة احد الأحفاد في موسم الحج .. كما يطيب لجدتي "صفية "رحمة الله عليها ..ان تنادي ذلك الحفيد بتلك التسمية "خاموش ".. والطريف في ذلك .. ان سنة ولادته .. سكنوا في بيت جدي حجاج أتراك فترة ما قبل الحج ..حيث كان فصل الصيف ..حارا جدا..مما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي عدة مرات...واجبر ذلك الوضع .. الحجاج الأتراك ..وخاصة النسوة ..ان يخرجوا مسرعين من داخل البيت .. مطلقين كلمة " خاموش ".. وقد التصقت تلك التسمية بذلك الحفيد بفرح وبهجة ولادته .. وكأن جدتي " صفية " تعني بأنها قد أفردت لكل منا بتسمية الولادة على مواقف طريفة حصلت علينا.. وحين نسألها عن التواريخ الدقيقة لمواليدنا تقرنها لنا بمثل تلك المواقف الطريفة والأحداث التي مرت على المدينةالمنورة .. وعادة ما تكون أحداث زمنية .. مكانية ..ذلك ان جدتي "صفية " لا تعرف التواريخ وأرقام الأعوام والأيام، ولا تعرف القراءة والكتابة. لذا تجيب: أنت ولدتك سنة جيهمان، وأنت سنة سيل جشم، وأنت في عام بداية بث التلفزيون السعودي في المدينة وأنت في أيام حرب فلسطين (ولا نعرف أي حروب فلسطين تعني)، ولكنها وإن كانت تجهل دقة التواريخ إلا أنها تسهب في سرد ذكرياتها عن حادث ولادة كل منا سواء أكان الأمر ليلاً أم نهاراً، ومن كانت حاضرة من نساء الجيران، ومن كانت القابلة وحكاية الأسماء وأسبابها التي لا تتدخل فيها عادة، لأن هذا الأمر يقرره جدي وحده. فالزمن بالنسبة لجدتي شيء مجرد. لذا تعمد إلى قياسه بربطه بالأحداث والملموس، خاصة المكان، لذا تصف أماكن ولادتنا بدقة.. فكيف كانت ولادتي ياجدة ؟. المهم نعود إليكم إلى خاموش ذلك الحفيد .. الذي تناديه جدتي .. كلما أتلقت به في بيتنا القديم الكائن بجوار بقيع "الغرقد " أو مناسبة ما.لذلك لم يكن " خاموش " ينظر الى نفسه فيراها داخل المرآة. او في وجوه الآخرين. ورغم صمته غير المشكوك به لدى الآخرين، إلا أنه يشك في نفسه على الدوام. فقد علمته أمه ( فن الصمت ) .. حاولت ان تطعمه الصمت منذ طفولته .. يركن في احد زوايا البيت بدون شغب او حركة.. صامتا ..مهذباً .. وخاصة عندما يأتي ألينا ضيف ..لذلك راح " خاموش " يختبر نفسه على منح بعض قواه للتفكير بعمق في كل ما يحصل حوله في التركيز بعقلانية على تساؤلات الضيوف ..لماذا أنت قليل الكلام؟.. هل أنت تعاني من ثقل اللسان في التحدث مع الآخرين؟ وقد كانت تنبؤاته بذلك يحس بها..عند الشدائد او المصائب التي تنزل عليه! ومن تلك التنبوات يهرول إلي احد تلك الزوايا لأشعر بقلبه (الباكي) براعته في تنفيذ الصمت على صدره و منه إلي جوف قلبه. يلمس ان جوهراً غائباً فيه يجعله مجرد طفل صامت. وهو يحتاج للكلام، لصورة اخرى لذاته داخل المعاني المكبوتة في قلبه. الأمر اذن لم يكن " خاموش " معه نوعاً من الدرس الصامت أو علم من علوم الكلام. كان يشعر بالتفكير بهدوء، ولم ينتظر احداً. كي يلقنه أسلوب الكلام، لذلك نجده في كل محادثة او كلام يقفل الأبواب الطويلة على صدره ويضع القناع على وجهه بجرةٍ واحدة .. ويكتفي بهز رأسه ببساطة. [email protected]