لأول مرة لم تذهب إلى الشارع المجاور ، حيث اعتادت تناول الإفطار من عربة الفول الشهيرة في المنطقة ، بل قطعت الطريق لتدخل المطعم , وتجلس في مكان يعكس لها من خلال زجاج الباب محل التقني مصلح الهواتف. لم تكن تعي ما الذي يحدث في داخلها، ولا لماذا وجدت نفسها ترفض مغادرة الشارع الذي طالما أحست فيه بالملل. -ماذا تطلبين سيدتي؟ أرجعها صوت عامل المطعم إلي عالمها،وهو يقف أمامها منتصبا بقامته الفارعة،ومئزره الأحمر فاقع اللون. نظرت إليه شاردة،ثم مدت يدها والتقطت قائمة الطعام ،وما لبثت أن وضعتها لتتمتم بصوت مبحوح،متقطع: -أي حاجة…أي حاجة.لا يهم. -سيدتي اختاري أنت من فضلك،لا يمكنني التصرف من تلقاء نفسي. -طيب…بيتزا…هامبورغر…أي حاجة . تفرسها قليلا وقد قطب حاجبيه مستغربا،ثم ولى أدراجه . كانت تحرك الهاتف بين يديها،وهي تنظر له ،ثم سرحت بفكرها بعيدا بعيدا . جالت بخاطرها كل قصص الحب التي التقطتها أذناها علي مدار سنوات العمل. فبعضها أضحكها،وبعضها أحزنها ،والآخر أبكاها.وهي التي لم تذق طعم الحب يوما في حياتها. ( الحب كده وصال ودلال ورضا وخصام اهو من ده وده الحب كده مش عايز كلام الحب كده ) وهي تدفع ثمن الطعام ،لم تكن تدري ماالذي تناولته أصلا ! وقفت علي الرصيف المقابل وهي تتنفس ببطء ،بينما عيناها تسمرتا علي باب محل التقني. رن الهاتف فأفزعها -إيمان…أين أنت؟لماذا أطلت هكذا؟عندنا عروس ،ومرافقات لها ، تعالي بسرعة. -آ.آ…آسفة جدا انشغلت قليلا،أنا قادمة. ألقت الهاتف في حقيبتها ،وأسرعت متجهة صوب الصالون. يومها،وعلي غير عادتها ، كانت توزع الإبتسامات علي الجميع،وتهتم بقصصهن،بل وتسأل حتي في بعض التفاصيل التي لم تكن تهتم بها من قبل. حتي أمل رفيقتها ،لاحظت عليها هذا التغير ،وكانت ترمقها بين الفينة ، والأخري وعيناها تشعان بابتسامة ماكرة. وهي تغادر الصالون مساء،كانت تسرع في مشيتها،حتي أمل كانت مجبرة علي الهرولة أحيانا للحاق بها. -أغلق..لقد أغلق. -من الذي أغلق؟سألتها رفيقتها في اندهاش. -ولا حاجة.أتحدث فقط.سأنتظر الحافلة في الموقف المعتاد،سلمي علي خالتي فاطمة.سلام. بينما وقفت أمل مشدوهة، حائرة.قطعت هي الطريق لانتظار الحافلة الموعودة. كان ليلها طويلا ،طويلا.علي غير ما تعودت عليه. حتي وهي ممددة تشاهد برامج التلفزيون،كانت لا تتوقف عند اية قناة.فكل الأغاني اصبح لها طعم.وكل الأفلام صار لها معني! ( حبيبي لما يوعدني تبات الدنيا ضحكالي ولما وصله يسعدني بافكر في اللي يجرالي ينسيني الوجود كله ولا يخطر على بالي ) مع أولي خيوط الفحر ،كانت تدندن في الحمام،وهي تأخذ كامل وقتها في غسل شعرها،ثم تجفيفه بعناية كبيرة.بل إنها لأول مرة منذ سنوات طويلة ،وجدت صعوبة في اختيار ما تلبسه. ما أن وضعت قدمها خارج الحافلة,حتي ألقت بنظرها إلي أول الشارع. لقد كان الباب مفتوحا. قطعت الطريق بسرعة ،ورشاقة لتجد نفسها تقف علي عتبة المحل. -صباح الخير أستاذ أحمد. رفع رأسه مبتسما. -صباح الخير أستاذة … -إيمان…إيمان. -آه إيمان.هل حدث شئ للهاتف؟ -لا..إنه جميل..جميل.لقد أحببته،وجئت لأشكرك. -ههههههه.لا تشكريني،فأنا أديت عملي بإتقان وكفي.ولو احتجت مني أي أمر،أنا في خدمتك. -بل أنا من تتمني أن تخدمك بعينيها ،ورموشها(قالتها وهي تحدث نفسها في صوت خافت) -هل قلت شيئا أستاذة إيمان؟ لا..لا..قلت شكرا فقط.سأذهب إلي العمل الآن.سلام. دون شعور منها ،مدت يدها مسلمة،فوقف من مكانه مصافحا،لتحس قشعريرة تهز كامل جسدها ،وقد تشابكت اناملهما. أرادت جذب يدها بسرعة،لكنه لم يطلقها. -أين تعملين أستاذة إيمان؟ -آه…أعمل في صالون للتجميل في آخر الشارع،صالون الأميرة. -آه.صالون الأميرة .أعرفه.نحن جيران إذن.ربما سنلتقي ثانية. -آه أكيد ..أكيد سنلتقي. قالتها وهي تجذب يدها بسرعة لتخرج من المحل مهرولة. علي الرصيف،توقفت قليلا.ملأت رئتيها بهواء الصباح المنعش،التفتت صوب المحل راسمة علي شفتيها ابتسامة جذلي،ثم انطلقت صوب الصالون. ( يا سعد اللي عرف مرة حنان الحب وقساوته ويا قلبه اللي طول عمره ما داق الحب وحلاوته تشوفه يضحك وفي قلبه الأنين والنوح عايش بلا روح وحيد والحب هو الروح) يتبع …. ولحديث القلوب شجون لا تنتهي