عندما كنت في بودابست، كانت تحمل إليّ من لندن بسكويتاً هولندياً معسلاً، وروايات، وكاسيتات موسيقية. وكنت أنا أحدثها عن كتاب «التربيع والتدوير» للجاحظ، وعن مسألة النخلة التي جاء ذكرها في كتاب «الجبر والمقابلة» لمحمد بن موسى الخوارزمي. فيستهويها حديث الرياضيات، وتلتمس مني أن أحكي لها المزيد عنها. ولم أكن أملّ من الثرثرة عن الرياضيات، لأنني كنت أجد في معادلاتها جمالاً يفوق جمال الشعر، ولأنني، يومذاك، كنت معجباً بعبقرية آدا. سألتني: «من هي آدا؟». «آه، انها ابنة اللورد بايرون، وأمها أميرة متوازيات الأضلاع (على حد تعبير زوجها)، آنابيللا، الموهوبة في الرياضيات». «حدثني عنها، رجاء». كنا جالسين على مصطبة في شارع الفنادق، المطل على نهر الدانوب. وكنا نطفئ حر الصيف بتناول الآيس كريم. لكنها كانت متعطشة أيضاً الى الحديث، لأنها كانت تعاني من عزلة. قلت لها: في 1833، التقت آدا بماكنة. كانت ما تزال صبية يومذاك. ومنذ تلك اللحظة اعتبرت آدا هذه الماكنة الرياضية صديقتها. كانت هذه الآلة المذهلة ارهاصاً للكومبيوتر. وكان صانعها تشارلس بابج. قالت الأم آنابيللا: «ذهبنا كلتانا لمشاهدة هذه الآلة المفكرة يوم الاثنين الماضي، كانت هذه الآلة تتعامل مع أرقام معقدة، الى الأمس الثاني، والأمس الثالث، وتستخرج جذور معادلات من الدرجة الثانية». وفي الوقت الذي كان الجمهور ينظر الى هذه الآلة باندهاش، تفهمت آدا، الصبية، عملها، وثمنت جمال هذا الاختراع. كانت آدا خارقة في موهبتها الرياضية، وقد رفضت التعاون مع تشارلس بابج في بادئ الأمر. وقالت: «كنت أخشى كثيراً من استنهاض قواي العقلية التي كانت متفوقة على الآخرين، والتي لا أريد الكشف عنها... لذلك أحجم عن اظهار هذه القوى الخارقة». قال بابج، مخترع هذه الآلة الرياضية المذهلة، عن آدا: «ناقشنا سوية كل المحاولات التي يمكن أن تتمخض عنها هذه الآلة. أنا اقترحت الكثير منها، بيد ان الاختيار كان كله من اجتهادها وحدها». قالت رفيقتي: «وماذا أيضاً؟ حدثني المزيد عن هذه الفتاة، ابنة اللورد بايرون. أنا قرأت شيئاً من أشعاره عندما كنت في الجامعة». «سأكتفي بإشادة أخرى بها، لأنتقل بعد ذلك الى حديث الصفر والواحد. قال عنها وليم غبسون وبروس ستيرلنغ: «امرأة ذات عقل كبير، تذكرنا بأمها كثيراً، إه، وتضع على عينيها نظارات خضراء، وتؤلف كتباً لها قيمتها... انها تريد أن تقلب العالم، وتلعب النرد مع الأفلاك». قالت رفيقتي: «ما كنت أريدك أن تكتفي بهذا القدر من الكلام عن آدا. لكن ما هو حديث الصفر والواحد؟». «آه، انه جوهر الحياة اليوم، لأن نظام الكومبيوتر قائم على أساسه. فحين يجتمع الصفر مع الواحد، سنحصل على عالم الارقام كلها. ثم أن كل حساباتنا، وحواسيبنا (كومبيوتراتنا)، وتلفوناتنا، وتلفزيوناتنا، وكل قطعة من الآلات الإلكترونية، تعمل وفق نظام رقمي أعيدت كتابته في صيغة الصفر والواحد الثنائية بما يقابل نظام الانفتاح والانغلاق». وابتسمتُ، فقالت: «أراك تبتسم». «نعم، لأنني تذكرت ان الصفر امرأة، والواحد رجل. فالكومبيوتر هو مزاوجة بين المرأة والرجل». قالت: «أوضح، رجاء». «اترك تفسير ذلك لفطنتك، التي لا تفتقرين اليها». «لكنني أتتلمذ عليك الآن في كل شيء». «إلا هذه الأحجية، التي أتركها لتفكري فيها أنت». وأنا أود، بعد ذلك، أن أتوقف عند حديث الصفر. وسأستشهد بكلام لا يخلو من غموض وشاعرية لكاتب فرنسي: «في موضع ما هناك سيرينة (إحدى السيرينات الموسيقيات مغويات أوذيسيوس). كان جسدها الأخضر مبقعاً بالحراشف. ووجهها غير محجوب. وما تحت ذراعيها وردي اللون. أحياناً تشرع بالغناء. تقول النساء ان غناءها لم يكن سوى ترديد للفظة (0). لهذا السبب تستنهض هذه الأغنية عندهن ما يذكر بالصفر (0)، أو الدائرة، أو عنق الرحم». لكنني سأعود هنا الى آدا، التي كانت تحوم حول الصفر. هل هو موجود «كشيء»، سألت أستاذها أوغستوس دي مورغان. اهو شيء، أم لا شيء، أم شيء آخر؟ فأجابها ان الصفر «شيء ما، مع انه ليس كمية ما، التي تعني شيئاً». ثم قلت لرفيقتي عن الصفر: «البابليون اكتشفوه/ والإغريق حرّموه/ والهندوس عبدوه، والكنيسة المسيحية استعملته لاتقاء خطر الهراطقة، والعرب نقلوه الى الغرب. واليوم يحاول علماء الفيزياء الفلكية استخدامه في البرهنة على نظرية الانفجار الكبير حول نشوء الكون. وهي نظرية لا أستطيع هضمها». قالت: «لماذا لا تستطيع هضمها؟». قلت: «أنا لا أحب أن يُزج الصفر في علم الفلك والفلسفة، الخ...». قالت: «لماذا لا تحب ذلك؟». قلت: «لأن الصفر شيء رياضي، وإذا استخدم خارج هذا الإطار الرياضي، فَقَدَ براءته الرياضية، وأصبح ألعوبة ايديولوجية». قالت: «أوضحْ، رجاء». قلت: «سأرجئ الحديث عن هذا الموضوع الى مناسبة أخرى، لأنني أحب أن أتوقف عند الصفر ككينونة رياضية في الأساس. أما أدلجة موضوع الصفر فانحراف عن طبيعته وجوهره». ابتسمت رفيقتي، وقالت: «أنا مصغية الى حديثك في كل الأحوال، يا صديقي». «في واقع الحال»، قلت لرفيقتي «كان موضوع الصفر، وحساب التفاضل والتكامل هما اللذان اجتذباني الى الرياضيات، مع أنني لست رياضياً بالفطرة». ضحكت، وقالت: «أهذا تواضع؟». «لا، صدقيني، أنا لست موهوباً في الرياضيات، لكنني أعشقها». «طيب»، قالت رفيقتي «فلندخل مملكة الصفر، إذن». «آه، لو تعلمين أي شيء رائع هو هذا اللاشيء!». «أنت تثير فضولي كثيراً». نعم، لقد ظل الصفر لغزاً بالنسبة للإنسان، الى أن اكتشف الهنود قيمته التي لا تقدر بثمن. فقبل ذلك كان شبحاً، وكان شيئاً غامضاً، بل لم يكن رقماً بين الأرقام، هو والواحد، كما كان أرسطو يعتقد. لأن أرسطو كان يعتبر الأعداد تراكماً، أو «كومة». وبما ان الصفر والواحد، لا يشكلان «كوماً»، فهما ليسا من بين الأعداد. بل ان البعض استثنى الاثنين أيضاً. لكن الهنود اكتشفوا في الصفر قوته السحرية في تيسير فهم الأعداد (بعد ابتكار منزلة العشرات والمئات والألوف الخ)، وفي تيسير وتبسيط العمليات الحسابية كما صرنا نعرفها ونمارسها اليوم. لكن الصفر لم يكن مطواعاً تماماً في التعامل معه، لقد ظل، رغم ذلك، لغزاً غامضاً، لأنه ليس عدداً كبقية الأعداد. على سبيل المثال اننا إذا قسمنا أي عدد على نفسه، فإن النتيجة تساوي 1. فهل ان صفراً على صفر يساوي 1؟ كلا! لماذا؟ ربما لأن الصفر ليس كمية. انه لا شيء. واللاشيء على لا شيء لا يساوي واحداً! وبالفعل ان قسمة الصفر على صفر بلبلت البشر على مر القرون. وكان أول من دوّخته هذه المسألة الرياضي الهندي الشهير براهماغوبتا (في القرن السابع)، الذي قرر أن الصفر على صفر يساوي صفراً. هذا في حين ان الرياضي الهندي الآخر، باسكارا، (في القرن الثاني عشر) قرر أن أي كمية مقسومة على صفر، بما في ذلك صفر على صفر، تساوي ما لا نهاية. أما اليوم فنحن نعرف ان الصفر على صفر كمية غير محددة. وهذا يُدرك بكل بساطة! سألتني: كيف؟ قلت: لأن الصفر إذا ضربناه في أي عدد، فالنتيجة تساوي صفراً، إذن، صفر على صفر يمكن أن يعطينا أي عدد. وكنت أود أن أروي لمرافقتي كيف حُلت مشكلة القسمة على الصفر في حساب التفاضل والتكامل، وأن أشرح لها كيفية تحويل أي عدد من أعدادنا القائمة على النظام العشري الى عدد يكتب بطريقة النظام الثنائي (باستخدام الصفر والواحد فقط)، طبعاً مع اعتماد العدد، ومضاعفاته بصورة مضمرة، إلا أنني خشيت أن يزحف اليها الملل. فاكتفيت بذلك. ولكي ألطف من حديثي الجاد، قلت لها عندما وصلنا الفندق الذي كانت نازلة فيه: «إذا كانت لديك بقية من القدرة على التحمل، فسأروي لك قصة مقتضبة عن فندق الرياضي الألماني ديفد هيلبرت». قالت: «يسعدني ذلك، وسأطلب قهوة لكلينا». وبعد ان اتخذنا مقعدينا في بهو الفندق، وجيء لنا بالقهوة، بدأت أحدثها عن فندق ديفد هيلبرت، قلت: تخيل هيلبرت أن هناك فندقاً يشتمل على عدد لا نهائي من الغرف. وكانت غرف هذا الفندق الهائل كلها مشغولة. ثم دخل الفندق زائر جديد. هل سيوفرون له غرفة. لا إشكال في الأمر (مع أن ذلك يتطلب تعاوناً من بقية النزلاء). قررت الإدارة نقل كل نزيل الى الغرفة المجاورة: نزيل الغرفة الأولى ينتقل الى الغرفة الثانية، ونزيل الغرفة الثانية يذهب الى الثالثة، الخ. وهكذا فرغت الغرفة الأولى للقادم الجديد، ولن يفقد النزلاء الآخرون مقاماً لهم، ما دام في الفندق عدد لا نهائي من الغرف! ضحكت رفيقتي، وشكرتني قائلة: «كنت في حاجة حقاً الى الضحك، بعد حديثك الجاد، لكن الشيق عن الرياضيات»!