-1- ثورة الشك يوم احتجبت فيه شمسه خلف الغيوم الدكناء. رياح عاتية ،تكاد تقتلع الأشجار من جذورها، وقد تراصفت علي جانبي طريق تسلكه سيارة، راحت تلتهم الطريق في سرعة جنونية،كأنما هي تهرب من شيء،ولا تريد أن تصل إلي …أي شيء.!! بدأت السماء تجود بزخات من المطر، تزامنت مع مثيلاتها ،وقد باغتت عينين حائرتين،تائهتين . فوق ربوة تطل علي بحر متلاطمة أمواجه ، ثائرة أوصاله ، تماما كما هي مشاعره، وأحاسيسه في تلك اللحظة العصيبة من ثورة بركان شكه ،أوقف سليم سيارته. أكاد أشك في نفسي لأني… أكاد أشك فيك وانت مني يقول الناس إنك خنت عهدي ولم تحفظ هواي ولم تصني وانت مناي أجمعها مشت بي إليك خطى الشباب المطمئن كان سليم في العقد الخامس من عمره، عندما توفيت زوجته فجأة، بعد رحلة زواج استمرت قرابة الربع قرن . وهو يقطع الصحراء وحده،انطوي علي نفسه يجتر الذكريات،ويعيش علي ماض تولي وفات. بعد زواج إبنتيه واستقرارهما في الخارج،انغلق علي نفسه في عالمه الداخلي ،فالزمن كان قاسيا معه،ولم يحتفظ له من أمسه الجميل،إلا بكريم،آخر العنقود.والذي كان في آخر سنة له في الجامعة. هذا الأخير الذي أرغمه صمت المكان،أن يقطع معه كل صلة،عدا صلة النوم. كانت الوحدة القاتلة تغلف يوميات سليم،حيث لم يكن يؤنسه سوي بعض زيارات الأصدقاء في فترات متباعدة.وكثيرا ما نصحوه بإلحاح أن يعود إلي أعماله، ومباشرة شركاته بنفسه حتي يخرج من حالة الاكتئاب التي أصبح يعيشها منذ رحيل رفيقة الدرب. وبعد فترة عناد أذعن للأمر ،ونفذ طلبهم علي مضض. وبالفعل عاد رويدا رويدا إلي عالم الأعمال،حتي أصبح العمل بمثابة الهواء الذي يتنفسه ليخرج من حالة الإختناق التي يعيشها،ويحس بكيانه من جديد،ويجد بعض الطعم لحياة كان قد فقد فيها كل لذة. ومع ذلك بقيت مسحة الحزن طاغية علي تقاسيم وجهه المتعب،والتي استعصي علي الرفاق محوها. حتي محاولات لبني السكرتيرة و التي دأبت علي الحديث معه ومحاولة جره الي نقاشات خارج عالم الشغل، باءت كلها بالفشل. كان كمن أصابه الصمم، والعمي،لتعود كل مرة تجر أذيال الخيبة. كان كل ما فيه يغريها علي محاولة استمالة الرجل الأرمل. سوالفه البيضاء التي أضفت عليه مسحة من الجمال،والوقار والهيبة.وعيناه المبحرتان في عالم الأحزان كأنما هو شاعر يرتل اجمل قصائد العشق . لم تعد تعرض عليه الأوراق فقط ، بل أصبحت تعرض معها ما كانت تراه مستفزا لرجولته المعتقة. كانت تعزف علي حواسه بمهارة الأنثي، بداية من عطرها الباريسي، إلي ملامسة جسده في حركات تريدها عفوية،وهي تنحني علي مكتبه،ليمضي لها بعض الأوراق. ولحديث القلوب شجون لا تنتهي. الجمعة القادمة نواصل.