ومدينة كتبت للأجيال أكثر من قصة ورواية.. عايشت تقلبات وتحولات.. من المد والجزر.. تعلمت جدة الأرض والناس كيف يكون للبحر خطابه وتأثيره.. وكيف تكون للموجة لغة ترسل عذوبتها في نسمات مبتلة بالحب حين تجتاز "رواشين" لا تقبل القسمة على اثنين في ذاكرة الفن. والابداع.. وفي رسم ثقافة المكان والناس والزمان. هكذا كانت ومازالت جدة قصة مختلفة في منظومة المدن العربية.. تركت تاريخاً ليس فقط في الارث الذي يرتهن للتضاريس. ولكن في حجم الوعي وتأهيل الفكر لسكان تجذروا في اعماق ممراتها.. وقفزاتها.. وعثراتها.. ومن رواشينها اطلوا اليوم من نوافذ على الحاضر وأمطروه توثيقاً ليكون الدكتور عبدالله مناع احد أولئك الكبار الذين كتبوا جدة من فوق "سنابيك" مجاديفها بالحب والابداع والشجن. المناع كان بمثابة الصندوق الأسود حين استضافته المناسبة في واحدة من حلقات التراث التي تقام في مدينة جدة التاريخية حيث بدأ حديثه من منصة الحاضر وخلفه كانت الأماكن التي تعيده الى يوم مولده في حارة البحر حيث قال: ما أكثر وأعظم اللحظات التاريخية الفارقة.. في حياة (جدة)..؟! فنحن نعيش (الآن)، ونسعد بلحظتها التاريخية (السابعة) في تقديري.. التي جاءت مع مطلع الألفية الثالثة في الثالث والعشرين من شهر شعبان من العام الماضي (1435ه).. الموافق للحادي والعشرين من شهر يونيه من عام (2014م)، الذي ودعناه قبل سبعة عشر يوماً، عندما التقت في العاصمة القطرية (الدوحة) – خلال ذلك الشهر – لجنة (حماية التراث العالمي الإنساني) التابعة لمنظمة (اليونسكو) للعلوم والثقافة والآداب والفنون.. برئاسة الأميرة شيخة مياسية – شقيقة أمير دولة قطر – ل (التصويت) على قبول ملف مدينة (جدة) من عدمه..؟! الذي تم تقديمه أخيراً بصورة متكاملة عبر جهود موفقة مشتركة بين الهيئة والأمانة في شهر يناير الماضي.. ليصوت أعضاء اللجنة ب (الإجماع) على قبول (الملف)، وهو ما يعني – بالتالي – الموافقة على ضمها إلى (قائمة حماية التراث العالمي).. منذ تلك اللحظة.. منذ ذلك اليوم. إخواني وأخواتي: لقد سبق هذه اللحظة.. لحظات تاريخية فارقة أوصلتنا إليها، يتوجب استرجاعها والاحتفاء بها، وتذكير الأجيال الشابة.. خصوصاً بها، إذ لولاها مجتمعة.. لما كنا في لحظتنا السعيدة هذه. كانت (أولاها) في قديم الزمان وسالف الأيام.. عندما جاءها ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان – رضي الله عنه – في العام الثاني من خلافته.. عام ستة وعشرين للهجرة.. ليقرر: أي المينائين أصلح لأن يكون ميناءً لبيت الله الحرام في (مكة) أم القرى.. فقرر أن تكون (جدة).. رغم أنه أبحر في هجرتيه إلى (الحبشة) من ميناء (الشعيبة).. وعاد إليه!! وكانت (ثانيتهما).. عندما أمر السلطان المملوكي (قنصوه الغوري) ببناء سورها الرابع أو حصنها الحصين عام 911ه - 1517م.. لصد العدوان (البرتغالي) المتوقع على الموانئ الإسلامية في السويس والإسكندرية.. ودمياط، وكأن (جدة) هي بوابة الموانئ الإسلامية آنذاك، فجيء إليها – من أجل إنجازه – بخيرة معماري العالم العربي والإسلامي.. وقد صد سورها بأبراجه و(دشمه) وقلاعه وجنده وسلاحه العدوان البرتغالي عند حدوثه بعد أحد عشر عاماً من بناء السور. وكانت (ثالثة) تلك اللحظات.. عندما افتتحت بريطانيا العظمى آنذاك عام 1216ه - 1802م.. أول قنصلياتها في شبه الجزيرة العربية.. في مدينة (جدة).. بكل ما يعنيه ذلك.. من درجات التواصل المبكر مع الغرب وتقدمه وحضارته. وكانت (رابعتها).. عندما قدم إليها عام 1230ه - 1814م أعظم الرحالة والمستكشفين الأوروبيين: الرحالة السويسري (جان لويس بيركهارت)، حيث أقام فيها وفي بقية مدن الحجاز (الطائفومكةوالمدينةالمنورة وينبع) عاماً بطوله، ليقدِّم (جدة) ويعرف بها العالم كله عبر الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.. أجمل وأدق وأوسع تعريف من خلال كتابه الموسوعي الوثائقي الشامل (رحلات إلى شبه الجزيرة العربية)، والذي اعتمدته (الجمعية) منذ صدوره عام 1829م كأهم المراجع عن شبه الجزيرة العربية، والذي لم يترك فيه صغيرة أو كبيرة في حياة (جدة).. إلا وأحصاها.. إلى حد قوله بأن أغنياءها يبدلون ملابسهم في الصيف – مرة كل يوم، وأن متوسطيها يبدلونها مرتين في الأسبوع، وأن بها سبعاً وعشرين مقهى، وأربعين مليونيراً – في ذلك الزمان – وهم الذين يملك الواحد منهم خمسين ألف جنيه استرليني..!! ثم كانت لحظتها (الخامسة) الفارقة عندما أعلن شريف مكة (الحسين بن علي) في شهر يونيه من عام 1916م عن قيام (النهضة) العربية أو (الثورة العربية) الكبرى على الأتراك.. ليتوافد إلى (جدة) عشرات العشرات من مثقفي العالم العربي وساسته وثواره.. للقاء الشريف الحسين في مكة، وإعلان انضمامهم إلى صفوف الثورة العربية.. ليكونوا في خدمة أهدافها في الخلاص من الحكم العثماني..؟! ثم كانت لحظتها الفارقة (السادسة) أيام الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه –.. عندما جرى التوقيع على (أولى) اتفاقيات التنقيب عن النفط مع شركة (استاندرد أويل أوف كليفورنيا) – أو سوكال (SOCAL) اختصاراً – في قصر خزام في التاسع والعشرين من شهر مايو من عام 1933م بين الشيخ عبدالله السليمان وزير المالية الذي كانت تتبعه آنذاك مديريات – الصحة والزراعة والحج والمواصلات والتجارة والجمارك والزكاة – والمستر (لويد هاميلتون) مندوب الشركة.. بعد مفاوضات طويلة بدأت في شهر فبراير من عام 1930م في (بيت نصيف).. حيث كان يسكن الملك عبدالعزيز.. ثم انتقلت عند إعداد (عقد الامتياز) الشاق والصعب و(الأول) في تاريخ البلاد.. إلى (بيت الفضل) في حارة الشام، ثم إلى (بيت البغدادي) الشهير على شارع الملك عبدالعزيز بين حارتي البحر والشام، والذي كان أول مقر ل (وزارة الخارجية).. إلى أن تمت قراءة نص عقد (الامتياز) على الملك عبدالعزيز ومستشاريه في قصر البطحاء بمكة ل (إقراره)، حيث تم بعد التوقيع التاريخي عليه.. تسلُّم وزارة المالية لأول (خمسين ألف جنيه استرليني ذهب) بحضور المكتشف المهندس كارل تويتشل.. كدفعة أولى من (حق) امتياز التنقيب عن الزيت في المنطقة الشرقية. لقد كان أول (مقر) للشركة.. والتي أصبح اسمها فيما بعد شركة الزيت العربية الأمريكية (آرامكو).. هو في (بيت البترجي)، ثم انتقلت إلى (بيت باجنيد).. الفارط الجمال بحارة الشام، والذي لم يبق منه غير صوره في الألبومات وكتب الرحالة وعلى غلاف كتابي (تاريخ ما لم يؤرخ – جدة: الإنسان والمكان).. الصادر عام 2011م. إخواني وأخواتي: إذا كانت هناك لحظات فارقة أخرى في حياة جدة وأيامها تجاوزتها.. كيوم وصول مياه العين العزيزية إلى (جدة) عام 1948م.. مثلاً، أو كيوم افتتاح أول (بنك مركزي) للمملكة في (جدة) عام 1951م، والذي اتخذ من أحد دور الشيخ حسن بكر في حارة البحر.. مقراً له باسم (مؤسسة النقد العربي السعودي).. حيث جرى له افتتاح هائل لا ينسى، بإشراف الشيخ عبدالله السليمان وزير المالية وتحت رعاية ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز.. نيابة عن الملك عبدالعزيز، في كازينو (المقصف) الملاصق شرقاً لمبنى البريد.. على ميدان الساعة، الذي تم تشويهه في غفلة من الأعين والضمائر بتأجيره والسماح بالبناء فيه ل (مستثمر) لم يقدم ل (الموقع) الذي استغله أسوأ استغلال.. شيئاً يذكر له، فيشكر عليه، فقد أردت بهذا الاسترجاع السريع لتلك اللحظات (الست).. دون غيرها.. حتى أعطي أكبر وقت من وقت هذه المحاضرة القصير.. للحديث عن هذه (اللحظة السابعة) الفارقة في حياة جدة: لحظة (انضمامها) ل (قائمة حماية التراث العالمي الإنساني).. لدى منظمة (اليونسكو)..؟! فماذا يعني هذا الانضمام..؟ إنه يعني الكثير.. الكثير..!! إنه يعني – نظرياً – التقدير ل (مكانة) جدة كملتقى للحضارات والثقافات، والاعتراف ب (قيمة) تراثها المعماري الباذخ.. ب (نسيجه) المتميز الذي يشاركنا العالم – عبر منظمته الأممية "اليونسكو" – مسؤولية حمايته والحفاظ عليه..؟ وهو يعني عملياً.. في المقابل.. وجوب العمل بكل الوسائل ل (حماية) المدينة التاريخية والحفاظ على تراثها.. ونسيجها المعماري: على مساجدها التاريخية و(بواباتها) القديمة، وأسواقها التي عاشت مئات السنين ك (سوق الخاسكية)، وسوق العلوي، وسوق البدو وسوق الجامع وسوق باب شريف وما تبقى من (سوق الندى)، وعلى برحاتها وشوارعها وأزقتها.. وعلى دورها الفارهة الفاخرة النادرة ب (رواشينها) وشرفاتها و(دواوينها) و(مقاعدها) و(صهاريجها).. لتكون مثالاً معمارياً ملهماً للأجيال يوصل الماضي ب (الحاضر) ب (المستقبل)..!! ف (اليونسكو) التي أصدرت قرارها السعيد بالنسبة لأهالي جدة، والمقيمين بها.. ومن اختاروا العيش فيها من أبناء وطننا الكبير فأصبحوا منها وهي منهم.. ستراقب ما سيجري على أرض الواقع بعد قرارها.. من خلال بعثاتها الاستطلاعية – كل عامين – حتى تبقى بين (القائمة) أو يزول عنها هذا (الشرف)..!! فمن سيتولى هذه المسؤولية الضخمة بكثرة وتعدد جوانبها..؟ أهي الهيئة العامة للسياحة والآثار.. ورئيسها..؟ أم هي محافظة جدة.. ومحافظها..؟ أم هي أمانة محافظة جدة.. وأمينها..؟ نعم.. هم كل أولئك (أولاً)، لأنهم يمثلون الصف الأول في تحمل تبعات هذه (المسؤولية).. بحكم مواقعهم الإدارية: (تنظيمياً) و(تنفيذياً)، وبأرتال العاملين في إداراتهم، وبالميزانيات السنوية التي تصرف لهم.. إلى جانب دخول الأمانة نفسها من عائدات إعلانات الشوارع والميادين وواجهات وأسطح العمائر، ولوحات المحلات التي تقدر بالآلاف في المنطقة التاريخية، التي ماتزال أكثر مواقع جدة جذباً.. والتي كشف عنها أمين مدينة جدة الثالث (الدكتور نزيه نصيف) عندما قال ذات مرة بأنها بلغت في أيامه قرابة مائتين وأربعين مليوناً – إن لم تخني الذاكرة -!! فكم بلغت اليوم؟! لكن.. إلى جانب هذا الصف الأول من المسؤولين عن حماية المدينة والحفاظ على تراثها المعماري.. هناك صف أول (مكرر) من أهالي جدة والمقيمين بها، وممن هاجروا إليها واستطابوا العيش فيها على الرحب من سماحة وطيبة أهلها.. فاستثمروا فيها استثمارات عادت عليهم بأفضل الأرباح.. أكثرها الله لهم. إن هؤلاء جميعاً.. شركاء في مسؤولية حماية تراث جدة والحفاظ عليه.. ففيه عاشوا، وبه أثروا، وقد جاء دورهم في رد الجميل ل (مدينتهم) التي أحبوها وعشقوها وهاموا بها.. بصورة أقرب ما تكون إلى الخيال.. منها إلى الحقيقة..؟! ويبدو أن الأهالي – والملاك منهم خاصة – كانوا عند حسن الظن بهم وبحبهم الخرافي ل (جدة).. فقد استجابوا بتلقائية مبشرة بكل خير ل (فرحتهم) بقرار (اليونسكو).. فقام بعضهم بترميم منازلهم، وأبرم الآخرون عقوداً مع هيئة السياحة وشركات المقاولات.. لترميم ما يزيد عن أربعمائة منزل.. كما تناقلت ذلك أخبارنا الصحفية، وهو ما دعا محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد ورئيس لجنة التنمية السياحية بها.. وصاحب الجهود الحثيثة المشكورة في حماية المدينة وتراثها المعماري من عبث العابثين واستغوال المستثمرين، وكما كان يفعل والده المرحوم الأمير ماجد بن عبدالعزيز.. إلى (تكريم) هؤلاء الملاك تقديراً وامتناناً لهم وتحفيزاً للبقية منهم. ومع ذلك.. فإن (المسؤولية) تظل أكبر من كل الجهود المشكورة التي بذلت، فهي تحتاج في مواجهتها إلى أمرين في تقديري.. الأول: دعم مالي سخي من قبل (الدولة).. بعد إعلان (اليونسكو) عن ضمها إلى قائمة (حماية التراث العالمي الإنساني).. كذلك الذي تم تقديمه ل (منطقة الدرعية)، حتى تم إعادة إعمارها على نفس نسقها البيئي الذي كانت عليه.. أو كذلك الذي اعتُمد لإعمار قصر (العقير) ومنطقة الميناء المحيطة به على شاطئ الأحساء. دعم.. ينتظر كلمة من خادم الحرمين الشريفين الذي ندعوا له، ويدعوا الوطن بأسره له.. بالشفاء العاجل. أما الثاني: فهو الدعم الفني المتوقع والمنتظر.. من خبراء اليونسكو في الإعمار والترميم.. دعم كذلك كالذي قدم ل (روما) القديمة في إيطاليا أو (دوسيلدروف) القديمة في ألمانيا.. عبر خبرائهم وإشرافهم ومتابعتهم. ليبقى.. بعد هذا، دور مؤسسات المجتمع المدني، والجمعيات التطوعية.. لخدمة المنطقة التراثية وألقها وعبيرها ك (عيون جدة) و(قلب جدة) و(تراث جدة).. للعناية ب (بيئتها) ونظافتها.. بإضاءتها وجمالها.. برشقها بالمجسمات الجمالية واللوحات الجدارية في برحاتها وأركانها، وكما كان يفعل فنانها ومهندسها وأمينها الأول الدكتور محمد سعيد فارسي.. الغائب عن هذا المهرجان وما سبق من مهرجانات، وهو الجدير بأن يكون أول حاضريها.. فهو أول من دعا (اليونسكو) في الثمانينات إلى ضمها لقائمة (حماية التراث المعماري العالمي). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عبدالله مناع