علي الستراوي حينما تتلمسُ عوالم الشاعرة السعودية بديعة داود كشغري الشعرية تسكنك رعشة مجنونة البوح، مجنونة الرؤى ذات الجهات الواسعة في العناق حينما تقودك مفرداتها نحو جهة الفضاء المفتوح بالأسئلة وإلى أرضية مسرحية تقوم بأدوارها (حواء) الملتصقة بتربة خصوبتها وبين وجع (الكلمة) تفيض اشتعالاتها بالرؤى، حيث يتكون إحساس رهيف يأخذ بنا نحو أصالة المفردة وانتقائها.. في الجهة الصحيحة من (النص). وفي نص غنائي تؤسسه بديعة كشغري عبر ومضاتها الفنية بين الحلم وبين إرهاصات لزمن أسكن بداخلها العديد من الانكسارات في صورة (بصرية) لضمير (الأنا) الفاعلة وفي رؤية لقصيدة مشحونة الوجس تعالج عبرها امتلاكها لشكل ومضمون نسيجها الإبداعي، حيث هذه الشاعرة قد أطاحت بالجمود في عالمها الشعري إلى حركة النجوم السابحة في السماء، ومن هنا قد أقول: إن الشاعرة في هندستها للنص قد وصلت إلى صلب بناء النص فلم تخرج من البنية الإيقاعية قبل أن تطمئن على هدوء يشوبه مسحة من الشوق والحزن، في عالم تركت حوله حبل حزنها لتؤكّد وجودها الإنساني كدم وماء. العلاقة بين (الأنا الصغرى) و(الأنا الكبرى): عند الشاعرة في تكوينها للنص مرتكزان أساسيان الأول يتمحور تحت دفء (الأنا الصغرى) والثاني تحت فضاء (الأنا الكبرى). ولو اقتربنا من الأنا الصغرى وقلنا إنها تمثِّّل الشاعرة في فضائها.. بعيدة عن الصراعات التي تحاصرها ووضعنا مرتكزاً أساسياً لفضاء (الأنا الصغرى) ورسمنا هذه الأنا الصغرى (بنقاش حاد بين الذات والواقع) في لغة بعيدة عن (العدم - وبعيدة عن جدلها البيزنطي) واقتربنا من اللغة كمحور بنيت عليه القصيدة عبر حوار (الأنا) واقترابها من لغة الفلسفة في عالم الفيلسوف (هيدجر) الذي يرى اقترابه من فضاء (ديكارت) لاتضح هذا الفضاء في مفهوم (بديعة) الشاعرة على أن (طبيعة الكلمة تكشف ما هو مخبوء) عند اقتراب الفلسفة بلغة الشعر في تأكيد رؤية ديكارت القائلة: (يتفتح ويتلألأ كأنه يريد أن يكشف شيئاً) وهذا ما تقرأه في عامل الأنا الصغرى عند كشغري: واقفةً - مازلتُ – على مفترق العمر ومرساتي تنزف أياماً لا كالأيام رافضةً – كنتُ أرقاما تسقطها الساعات على زمني ترى هل يأتيني صوتك يوماً هل يفترش الدمعُ سحابَ دمي..؟ الأسئلة الحائرة في الأنا الصغرى، قد حاصرت الشاعرة بفضاءات ذاتية - لم تتركها سادرة، بل جعلت منها (كالأيام) تنزف بالوجع.. وكل هذا الحلم يؤكّد القدرة على فعل هذا الحلم القادم كالريح والمتمثّل (في الأنا الكبرى) وهو الحبيب وكل البشر، هل يأتي هذا الفيض ويوقف سحب الدمع عند الشاعرة؟ وهل تصر هذه الأنا الصغرى على كسر كل الحواجز والمتاريس التي تحاصرها - تاركة لها رؤية التحدي، متجاهلة كل الصغائر، والساذجين من البشر؟ هكذا هي الشاعرة في لغتها قد هدمت كل السدود وأتت بفضاءات أشارت إليها بلغة (المستقبل) في مجد أمة لا ينطفئ لها بريق! وفي تعدد هذه الصور، تأخذ بنا (بديعة) لظلٍ يسكنها بالثوران في كسر الحواجز والحدود: لو أنني حطمت الحواجز بيننا وتخطيت أبعاد البوابة الحجرية وتجاهلت لحظةً غباء المتفرجين حولنا وما قاله الساذجون ما خطه المؤرخون عن المستقبل (....) في مجدنا. إن التلوّن التاريخي لبديعة في هذه الصورة من قصيدة (لو أنني) تشوبها لغة الخطابة التقريرية، مما أبعدنا شيئاً فشيئاً عن إطلالة (الأنا الصغرى) التي اعتدنا أن نذوب في أجوائها، وأن نحسُّ بأننا نقرأ قصيدة (حواء) المفتونة بالهواجس والإلهام.. وقد يكون انحدار هذا التصوير في وهج (بديعة) مرتبطاً بالأنا الكبرى التي لم تترك للشاعرة (التنفس) بشكل صحيح. فليس من الممكن أن نتعالى على الذات.. حتى ولو أردنا الانتقال من الذات الصغرى، التي هي الأنا. إلى الذات الكبرى التي هي وهو و(المجتمع) وهنا قد نقع في (إشكالية) مرادها عدم التوجه الصحيح نحو فهم (الإبداع). وكما يرى (الغزالي) في رؤيته إلى (النص) قائلاً: إن النص هو: (اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال وهو الذي يستوي ظاهره وباطنه). وهذه الرؤية في فضاء النص قد نراها عند بديعة حينما نقترب من ذاتها أكثر ومن تأويلات الأحلام، وإخراجها من واقع المعقول إلى واقع الرؤيا الحالمة حول ضجيج يسكن الشاعرة. ويا ليت أبقت الشاعرة على هذا الضجيج في فيضها ولم تجر معها (الأنا الكبرى) حتى تخرج ذاتيتها بحنين إبداعي يخرج تلقائياً من الذات الصغرى إلى الذات الكبرى دون تكلّف. الأنا الكبرى وتجاوز حدود الحواجز: عندما أشرت إلى الأنا الصغرى، وهي تكوين الذات عند الشاعرة، لم تكن عني غائبة (الأنا الكبرى) والتي تتمثّل كما أشرت في (هي وهو - والمجتمع) وكلما اقتربنا من أنا الجمع كنا حذرين من الانزلاق في عالم (الغفلة) لأن الغفلة في تجليات الإبداع هي بحد ذاتها (متاريس) تحاصر الكاتب. وكلما كانت الغفلة بعيدة عن رؤية المبدع أودت هذه الغفلة به إلى عالم النسيان. وحينما تكون الذات في إرهاص الشاعر مثقلة بالصراع.. إن جاز لي تسميته (بالضجيج) أكون قد وضحت أن هذا الضجيج في عالم (بديعة كشغري) ضجيج مسكون (بحواء التفاحة) والضجيج في الأنا الكبرى (بآدم.. والآخرين) يؤكّد لنا أن الشاعرة قد رسمت ذاتها بصدق في الأنا الصغرى.. وحينما أرست بسفنها نحو ضجيج (الأنا الكبرى) اختلطت عليها الأشرعة.. وأصبح اليم بين جنونها أكثر تلاطماً.. فخرجت من عفويتها المبدعة إلى تقريريتها (المميتة)، وهذا قد نقرأه عندما تدخلنا الشاعرة في عالم (الأنا الكبرى) وبتحديد في قصيدة (ملحمة الوطن على كف الحجر)! طفل أم حجرُ ذاك المنتفض على أجنحة الثوار؟ بشر أم صخرٌ ذاك المتساقط أبداً ذاك المغوار؟ صحف العالم تتساءل.. تبهر.. زجاج البيت الأبيض يتصدع السقف البيضاوي يروع والحجر المتساقط ينفق أملاً أحمر يتجول ضربا.. طعنا، بركاناً يقذف حمما يتفتت ليعود كما كان إن بديعة في هذا الحلم الكبير قد تجاوزت حدود المتاريس بلغة تغلب عليها التقريرية والخطابية، في عمق الخروج من الذات الصغرى إلى الذات الكبرى، وفي فضاء التاريخ الإسلامي العريق: من صدر صلاح الدين من أضلع حطين يولد طفلٌ، وبأمر من عشق فلسطين. تتداخل هذه الصور المشتعلة بأوجاع (الأنا الكبرى) التي تبحر فيها الشاعرة، برؤية (عقلية) بعيدة عن تصوراتها الحالمة، والأجدر بالشاعرة أن تفجر هذه التصورات الكبرى متجاوزة لغة (التقرير) في رؤية تسكنها بالذات الصغرى التي هي بدورها تلقائية تأخذ بها إلى الذات (الكبرى). وأجمل ما رأته الشاعرة في عيون الأطفال وفي لغة السلاح الحجري، الذي أعطى الهوية الكبرى لأطفال فلسطين - أبناء الحجر: في يده سلاح حجري وفي يده الأخرى قلم للتاريخ إن العمق لا يأتي من الأسفل، إنما هو أعمق في جذوره تمتد من علو القمم، ورسوخ الجذور المتعلقة بالتربة. وهكذا أرى أن بديعة كشغري قد توجهت برؤيتها نحو (فضاء النص التاريخي مرتبطة بالنص الذاتي) وكلما تداخلت هذه الصراعات المتجانسة والمتنافرة في نفس الوقت اقتربنا أكثر من صيغة مرادها: لغة الوصول التي قد أكدت أن (نص) كشغري، مهما تجاوز من حدود يقع في منحدرين الأول (ذاتي ممثلاً في الأنا الصغرى) والثاني جمعي (مثلاً في الأنا الكبرى) وهذان المصطلحان قد أكد هوية الشاعرة وتضارب أشرعتها في العمل البنائي للنص. وحشة لم تدركها الشاعرة: أرى أن بعض النصوص قد أخذت فسحة فضاء الوحشة المتنافرة في اللغة التصوير، وعدم اشتداد النص في اللغة الشعرية مثلاً قولها في قصيدة (هيوستن): نزلت إلى شوارعك أسأل عن عنوان ابتغيه أين لغة الشعر في هذين البيتين.. الكلام عادي قريب إلى لغة سرد القصص، لا لغة الشعر. (وفي رؤية أخرى نقرأ! في عيون البشر.. بجانبك البنك استوقفتني امرأة وعلى ملامحها انزلاق فجائي). إن الوحشة ليست في (اللغة) بقدر ما هي في توظيف هذه اللغة في صور (شعرية) وهذا مسنود للشاعرة، وكيفية التعامل مع النص. فمثلاً من قصيدة (تأبين أحلام بنفسجية) نقرأ: لها أربع أعين عينان لابنها المسكين وقد فقأتهما شقوق الرغبات العمياء. إصرار الشاعرة على لغة (السرد) القصصي أكد أنها لا تخدم النص (الشعري) ولو كان هذا السرد في قصيدة (الملحمة) لكان لهذا السرد قرب من النص الشعري.. وهذا ما أراه قد قيد الشاعرة وأخرجها من لغة (الاندياح) البسيطة والموحية برؤية شعرية كما قرأناه في قصيدة (ذاكرة الحلم) التي أراها أقوى نص في المجموعة، خرج من روح الشاعرة بغير تكلفة، تحيطه (لغة الحنين) وهذا ليس عيباً لدى الشاعرة وإنما رؤية قد تراها صحيحة، وقد اختلف معها. وقد أوعز هذه اللغة السردية عند كشغري لقربها من الشعر الغربي - ودراستها للأدب الإنجليزي الذي أثَّر في لغتها العربية، من ناحية امتلاك زمام التوهج للنص. وأخيراً أرى أن الشاعر السعودي الشاب قد استحوذ على القارئ العربي، وأكد مكانته بين شعراء العالم. وهذه الصحوة ليست غريبة على بلد الشعر والشعراء.. ولكن أن تأتي هذه الصيحة لامرأة فالمرأة السعودية إذن قد أضاءت بعلاماتها المنيرة في مخاض الحركة الثقافية في المملكة مما أوصل صوتها خارج المملكة، وسيظل ظل التواصل ممتداً بيننا. *شاعر بحريني