قبل الحديث عن سمات الحداثة في شعر الشاعرة السعودية «بديعة كشغري» يجدر بنا التساؤل عن دوافع هذه الحداثة في شعر شاعرة عاشت في ظل مجتمع محافظ شديد التمسك بالتراث الشعري الأدبي القديم، وبالقيم الموروثة، وكيف لا يكون مجتمعا محافظا على موروثه الأدبي، وعلى ترابه وبقرائح أبنائه عبر القرون. وقد يخطئ الظن من يتوهم أن الشاعرة «بديعة كشغري» وأمثالها من الأديبات الشاعرات اللواتي التزمن الحداثة، وقد تحولن إليها تحت دوافع تقليد الحداثة الشعرية الوافدة من الغرب، وأن الشعر الحديث في نتاجهن هو ثمرة تقليد للشعر الغربي الوافد. التزمت الشاعرة «بديعة كشغري» قصيدة النثر متجاوزة الشعر القديم بقيوده التي كانت تكبل الشعر ومنها الوزن والقافية، ولغته التي عجزت عن التعبير عن المشاعر العميقة للذات، لكنها لم تتخل كليا عن بعض سمات الشعر التقليدي من وزن وإيقاع خارجيين أحيانا، والشاعرة «بديعة كشغري» لم تذهب بعيدا في تحطيم اللغة وإلغاء دورها في الإيصال أو الارتماء في شرك الغموض والتعمية، فقد ظل شعرها قادرا على إيصال رسالتها الشعرية دون جهد تأويلي، وانحصر تجديدها في تفجير طاقات اللغة الشعرية من خلال المجاز الذي منح لغتها قدرات تعبيرية رائعة في الكشف عن مكنونات روحها، وقد انحصر تجديدها الشعري في تطويع اللغة لكشف ما وراء الواقع، وتأكيد دور الأنا الواعية والسعي إلى التحقق الذاتي، معتمدة على ثقافة دينية عريقة تحاول زيادة قوة الوعي بالذات وتحقيق الذات لإمكاناتها. لم تكن الحداثة في شعر «بديعة» مجرد هلوسات أو داء رومانسي يقودها إلى التشاؤم واليأس، كان رفضها للواقع دعوة لبناء عالم بديل يسوده التعاطف والمحبة والوئام. هكذا كانت بدايات الكلام كان في الأرض مفازة عشق غصن زيتون وأسراب الحمام أجمل ما في شعر «بديعة كشغري» التشكيل اللغوي، فقد بدا شعرها المتلفع بأثواب رومانسية وسيريالية في صوره ومفرداته الموحية قمة الكمال في التجديد الشعري. نقرأ شعر «بديعة» فنحس بأنه ما زال يرتبط بالشعر العربي القديم لنصاعة البيان والقدرة على التبليغ، لكن بلغة ماتعة وصور وأخيلة جميلة تقنعك أن الحداثة الشعرية لها مسوغاتها في الارتقاء بالشعر القديم. بداوة الجرح تشربنا فما عدنا ندري، من هو منا؟ عفيف أو من هو كذاب أفاق يا للهول..! وقد تعتمد «بديعة» الأساطير والإشارات التاريخية، تستمدها من تاريخ أمتها في إطار دعوتها للتحرر الاجتماعي والقومي والوطني، وتربط من خلالها ماضي الأمة المشرق في مواجهة حاضرها المتردي، كإشارتها إلى بعض أساطير العراق وتاريخه: حرقوا بيتا ضم هويتنا ووثائق عشق تاريخية شرائع حمورابي تمزقها أيدي المحتل وما يميز شعر «بديعة كشغري» أيضا أنها لم تلجأ إلى التماس حالات من الوعي الكاذب في تجربتها الشعرية التي تقوم على الحدس. فلم تمس في شعرها الأعراف والأوضاع الاجتماعية، كأن تخرج من حدود أدب الأنثى بالتطرق أو التصريح بما هو مسكوت عنه. حورية أنا تأتيك من زفرات السحاب من خلف السماوات تأمرك أن تخرج من تمثال وقتك كي تبصر الله والغيب. تنهل الشاعرة «بديعة» من روحانية الشرق. وهي المنبع الثر الذي يرطب جفاف حضارة العصر وينديها بقيم الكرامة والعدالة والتراحم.. تقول: تعال إلى اللحظة التي يتسلل فيها الشفق إلى لغتي لكي أزرعك فلكا ياقوتيا يجري في وهج بذوري وأمواج أوردتي. فالشاعرة «بديعة كشغري» لم تتطفل على معنى الحداثة الشعرية وجوهرها، فهي تنطلق في تجربتها من خلفية ثقافية عميقة، وتدرك جوهر الحداثة وتطلعاتها البعيدة. وتركز «بديعة» كثيرا على الذات الشاعرة (الأنا) وكشف عالمها الداخلي، والنفاذ إلى أعماق الذات فيما وراء الواقع. آه... يا لغة الأساطير أجيبي ارفعي نظرة ميدوزا عن وجهنا المشؤوم أزيحي عن مجرتنا أفاعيها تلك التي أبدلت هيئة الإنسان فينا واعتمدت «بديعة» قصيدة النثر دون أن تفضل الإيقاع الخارجي الذي يرد عفو الخاطر خلال تواتر التفعيلات التقليدية وتقفيتها. على وجه الدنيا صحونا لنعلم أن اللغة هي السوط هي القرع أو الضرب كلها سواسية. وظل خطابها التحديثي أقرب إلى الاعتدال، فهي لا تقسو على الرجل، وتحتفظ بحفز الأنثى وتهذيبها الخلقي دون تحد للأعراف الاجتماعية. أصواتكن أهازيج المحال فلا تبكين الأمل يولد في فضاءات الحنايا المجبول بالأسئلة العدمية. بالعصافير القادمة الشعر في نظر «بديعة» غناء وتحليق، وتعبير عن روح الطبيعة التي تنتفي فيها الثنائيات. يقولون كل شيء كبير في هيوستن وأضيف كبير وأجوف خال من نكهة الشجر وأغاريد الطير مسكون بالنحيب والغربة