الكثير من الموظفين الذين امضوا عشرات السنين من حياتهم في وظائف قيادية أو وظائف خدمية أصبحوا اليوم يخافون أو يشعرون بالخوف من مرحلة حياة الظل ، فهنالك لا احد يلقي عليهم السلام ولا يسأل عن صحتهم ولا علاوات ولا تأمين صحي ولا إكرامية. لعل السبب الرئيس في هذه المعاناة يرجع إلى تعريف هؤلاء الإخوة بكلمة ( متقاعد) وهو مصطلح يطلق على من أكمل مدة الخدمة أو أتم ستين عاماً من عمره - رغما عن انفه -. واجتهادا مني سوف استبدل كلمة ( المتقاعدين ) بكلمة ( المُكرّمين ) فقط في هذا المقال وأعلن تنازلي عن براءة الاختراع الخاصة بهذا الاسم وجميع الحقوق التي تنشأ عنه لكل من يريد أن يستخدم هذا التعريف. هدفي من هذه التسمية أن أشعرهم بأنهم فئة من الموظفين قد أدوا ما عليهم من واجبات والتزامات وظيفية خلال فترة عملهم وبقي ما لهم من حفظ لكرامتهم وإنسانيتهم ، ولا اعني بكلامي هذا أنهم مهانون أو تلحق بهم اهانة ولكنني رأيت بعيني رجلا كبير السن تأثرت تجاعيد وجهه الرقيقة ( انكماشاً وانبساطاً) من ردة فعل احد موظفي البنوك واعتذاره عن خدمته لان هذا الرجل (المُكرم) قد تجاوز الخامسة والستين وبالتالي ليس له مكان عندهم . أيا كان السبب الذي يستند إليه من يؤيد عزل هؤلاء عن الحياة الاجتماعية والوظيفية وأيا كانت الأسباب الاقتصادية أو الإدارية أو القانونية التي تحتم علينا قبول هذا الحال ، فلا بد أن نعترف لهم بما قدموا وان نعمل لهم اليوم من اجل ما عملوا لنا في الأمس ، فمصيرنا - حتماً - إلى حالهم ، فلنتدارك أنفسنا وننقذ من تبقى منهم من حياة الظل ، فهم لا يريدون أكثر من إعطائهم إحساسا بأنهم لازالوا على رأس المجتمع بحكم مكانتهم الاجتماعية كآباء أو أجداد وإنهم قادرون على العطاء وانه لاغنى عنهم ، فأكثر ما يبعث الهم في قلوبهم عندما يستيقظ احدهم من نومه مبكراً فلا يجد في ذهنه مكانا يمكن أن يذهب إليه ليقضي ساعات النهار خارج المنزل بدلاً من جلوسه في البيت وجهاً لوجه مع أم العيال لا فرق بينه وبينها سوى تاء التأنيث. هذه حقيقة سمعتها من رجل متقاعد - يرحمه الله - عندما سُئل عن حاله وماذا يفعل في يومه فأجاب بدموع تذرف من عينه ( قاعد في البيت زي الحُرمه )، مثل هذا - في حياته - لم يكن يريد سوى مكان يقضي فيه فترة الصباح والظهيرة حتى يعود إلى منزله عند أذان الظهر كعادته منذ أربعين سنة . مصير كل موظف مهما كان منصبه ، ومهما كانت مدة خدمته طالت أو قصرت ، مصيره أن يخرج حتماً إلى حياة الظل ، فهناك سوف يتحسس بيده الكفن والحنوط ويجلس على الأرض أمام ساعة كبيرة ناطقة لها أسنان ولسان وهي تقول له في كل دقيقة ( مت قاعد - مت قاعد ..) ، في حياة الظل لن يجد كرسيا يجلس عليه لأن جميع الكراسي - على اختلاف مقاساتها وأحجامها - تقع تحت الشمس ومشغولة بالكامل.