مصير كل موظف في غالب الأحوال، ونهاية كل سيرة ومسيرة وظيفية طويلة، ومآل حتمي لكل من بلغ الستين، وطريق يسير فيه كل موظف حالي، فبلوغه متحتم، ولقاؤه اعتقاد جازم، ذلكم هو التقاعد. وهذه الكلمة ربما فسرها البعض تفسيرًا فيه بعد لغوي، فقد قسّموها إلى قسمين، فبات معناها مؤلمًا، ولا شك أنها من الناحية اللغوية صحيحة تمامًا، فالشخص الذي يراد له الموت قاعدًا يقال له في اللغة (متقاعد). وقد كنت اختلف مع هذا التقسيم إلى حدٍ ما، معتقدًا أن هذا المصير يفترض النظر إليه بعين التفاؤل، والأمل في حياة جديدة تختلف عن السنوات التي كانت تحمل في طياتها الوظيفة والارتباط بها والروتين اليومي الذي كان يعيشه المرء. وقد تم حينها زيارة الجمعية الوطنية للمتقاعدين والتعاون معها ببذل الفكر وتبادل الآراء حول السبل التي من شأنها تيسير السبل أمام المتقاعد لإنهاء معاملاته ثم إيجاد الطرق التي من خلالها قضاء وقته في النافع المفيد وذلك بتهيئة الوسائل والأماكن التي يستطيع من خلالها ممارسة هواياته أو التحدث مع أقرانه. وقد وصل بي الأمر من الحماس إلى أنني طالبت وفي مقالات عدة بتكريم المتقاعد في كل مكان يتعامل معه بمجرد إبراز بطاقته، وذلك لأنه أمضى السنين الطوال خادمًا لوطنه ومجتمعه، فهو - في تصوري - يستحق المزيد من التكريم والحفاوة. حتى اكتشفت مؤخرًا أن المتقاعد ليس له من التقدير نصيب، بل ليس مكرَّمًا من مقر عمله؛ وذلك من خلال إجراءات التقاعد الروتينية والمُعقَّدة، فالتمست العذر لمن قسّم الكلمة، حيث يبدو أنه تكبّد المعاناة، وذاق مرارة النكران، ولك أن تتصور أمورًا تصعب على المتقاعد، ومن ذلك أن الإدارة التي يتبع لها لا تقوم بإنهاء إجراءات التقاعد، بل يقوم المتقاعد بها شخصيًا، فأنت تريد الانصراف من الوظيفة، فهاك هذه الأوراق واذهب لتختم لك ومن جهات عديدة: صندوق التنمية العقاري، والتنمية الزراعية... إلخ. ومثل هذا الأسلوب البدائي في إنهاء الإجراءات يتنافى تمامًا ووجود ما يعرف بالحكومة الإلكترونية، إذ لا دور لها على الإطلاق في إجراءات التقاعد، فهي تملأ يدويًا، وعدد من الاستمارات توقع وتختم كما لو كنا نعيش قبل خمسين عامًا! وأتساءل: لماذا تملأ هذه الاستمارات وما الحاجة لها، فالمفترض أن الإدارات تتعامل عن طريق حاسب آلي، وبالتالي يفترض أنه وبمجرد فتح صفحة الموظف يظهر للإدارة كل شيء عنه، وبعدها يتم الربط بالحكومة الإلكترونية التي تغذي تلك الصفحة أو الإدخال يدويًا. وقد اندهشت إذ من المفترض أن تخصص الإدارات وفي ظل هذا الوضع القائم موظفًا يقوم بإنهاء إجراءات المتقاعدين، بحيث يراجع الصناديق التمويلية ويختم تلك الأوراق، إلى أن يتم استخدام الحاسب الآلي بالشكل الصحيح، ويتم تفعيل دور الحكومة الإلكترونية؟! والعجيب أن مسألة تصوير الأوراق والتوقيع والختم لا زالت باقية على حالها، مع أن الحوسبة قد انتشرت والأمير مقرن أكد يوم أمس الأول الأربعاء أن الدولة ماضية في استخدام التقنية، وجامعة طيبة قد أقامت هذا الأسبوع المؤتمر الدولي للحوسبة وتقنية المعلومات، ومع ذلك فنحن في إجراءات التقاعد لا زالت أوراقنا حاضرة بقوة ومعها التواقيع والأختام. إذا كان هذا وضع الرجال فما بال النساء، وهل من المعقول أن تطوف المرأة المتقاعدة بالصناديق وغيرها لتحصل على توقيعات ومستندات وأختام تفيد بعدم اقتراضها؟ وهل يليق بمجتمع يكرّم المرأة أن ينكل بها، وخصوصًا عند كبر سنّها وبلوغها مرحلة التقاعد؟! إن مثل هذه الإجراءات هي - في تصوري - نكران لذلك المتقاعد وكذلك للعقود التي أمضاها من عمره في الحياة الوظيفية، وكان يرجو أن ينال تكريمًا لائقًا وأن يحظى بمعاملة تدل على مكانته بعد تلك المرحلة الطويلة من حياته. والمرجو إعادة النظر في مثل هذه الأمور، فقد بات العالم لا يتعامل بالورق وحل التعامل الإلكتروني محله، وأراحه من العناء والذهاب والعودة والمراجعة التي ترهق المتقاعد وقد بات عمره لا يساعده على ذلك، وتفعيل الحكومة الإلكترونية واستخدام الحاسب الآلي بالشكل المطلوب يريح الجميع «الإدارات والمتقاعدين»، فهل يأتي اليوم الذي نرى فيه المتقاعد وقد ارتاح من هذا العناء، وبات يركن للراحة والهناء، وقد أكرمه الكرماء ورحمه الرحماء؟!