بحسب منطق نظرية تحول القوة (Power Transition) فإن القوي الإقليمية الصاعدة، والقوي العالمية التي في طريقها للانحسار، قد تندلع بينهما مواجهات في المناطق الجغرافية الاستراتيجية التي تتقابل وتتقاطع فيها مصالحها. ولذلك، فإن آسيا، خاصة منطقة شرق آسيا، مرشحة بقوة لتكون مسرحا لمواجهة محتملة بين الولاياتالمتحدةوالصين(7). وهي مواجهة ليست في مصلحة أي من الطرفين، ولا ترغب فيها أو تسعي إليها الصين. ولأن عبء التعامل مع مراحل التحول التاريخي يقع بشكل أكبر علي القوة المهيمنة، وهي في هذه الحالة الولاياتالمتحدة، فإن حدوث مثل هذه المواجهة يشكل هاجسا بالنسبة للعديد من خبراء السياسة الخارجية الأمريكية، الذين لا يرون أن الصراع بين الولاياتالمتحدةوالصين يصب في مصلحة الأولي. وقد أشارت سوزان شيرك في كتابها "الصين قوة عالمية هشة"(8) إلي هذه القضية وكيفية تفادي الولاياتالمتحدة لمثل هذا الصدام. حذرت شيرك من أن هناك وجهين للسياسة الخارجية الصينية: الوجه المتعقل المسئول الذي يسعي لتفادي الصدام، ووجه آخر أكثر انفلاتا وعصبية، و "عاطفية"، يظهر عندما تندلع أزمة تتعلق بقضايا حساسة مثل اليابان أو تايوان. حيث يشعر القادة الصينيون بأن عليهم إظهار قوتهم والدفاع عن كرامتهم الوطنية وكرامة شعوبهم. في مثل هذه الحالات، قد يتخلي القادة الصينيون عن حذرهم، ويتصرفون بطريقة غير محسوبة تزيد الأزمات اشتعالا. ولذلك يجب علي المسئولين الأمريكيين تفادي إثارة مثل هذه المشاعر. وفي إطار الأزمة الكورية الأخيرة، أدلي زبيجنيو بريجنسكي بدلوه أيضا، موجها النصائح لإدارة أوباما في كيفية التعاطي مع الصين لتفادي تصعيد الأزمة(9). أشار بريجنسكي إلي أن هناك اختلافا في المنظور التاريخي لكل من الصينوالولاياتالمتحدة يؤثر في رؤيتهما للأزمة. فالصين، التي تري أن التطور التاريخي يصب في مصلحتها، يتزايد عندها الإحساس بالثقة والقوة، كما تقل رغبتها في اتخاذ أي خطوات قد تؤدي إلي "هز القارب"، أي تهديد الأوضاع التي تراها مواتية لها. أما الولاياتالمتحدة، فتجد نفسها في موقع مختلف تماما، حيث يسود النقاش حول تراجع قوتها، كما تعاني أعباءها الخارجية المتعددة، ولذلك فهي مهتمة بحشد الجهود لاتخاذ عمل جماعي للتعامل مع الأزمة، وتشعر بالإحباط حين يرفض الآخرون "مشاطرتها أعباءها الجسيمة". في مثل هذه الظروف، يمكن أن يفضل الصينيون عدم اتخاذ أي إجراءات حاسمة تجاه كوريا الشمالية، مما لن يؤدي إلا إلي المزيد من الأعمال الاستفزازية من جانبها، وبالتالي فيمكن أن يدفع ذلك الولاياتالمتحدة لاتخاذ إجراءات تراها الصين خطيرة ومبالغا فيها. ينصح الدبلوماسي الأمريكي المخضرم الرئيس الأمريكي أوباما بأخذ زمام المبادرة، والاتصال بزعماء الصينواليابان وروسيا، مع تفادي اتخاذ لهجة عدائية أو إملائية، خاصة مع الصين. فإثارة المشاعر العدائية علي المستوي الجماهيري ستزيد من تعقيد الأزمة، وقد تدفعها إلي تصعيد خارج السيطرة. ويجب عدم إغفال الضغوط المتزايدة التي تضعها تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية علي العلاقات الأمريكية - الصينية. فيشير أستاذ العلاقات الدولية آرون فريدبرج(10) إلي أن هذه الأزمة وضعت نهاية للفترة التي كانت فيها العلاقات التجارية بين البلدين تمثل عامل استقرار، ودشنت بداية فترة جديدة، تصبح فيها مصدرا لتوتر ونزاع متصاعد. لقد أصبحت معدلات البطالة العالية تضع ضغوطا داخلية كبيرة علي الرئيس أوباما "ليفعل شيئا بخصوص الصين". كما أصبح العديد من السياسيين الأمريكيين يستخدمها - كما ظهر في الحملة الانتخابية الأخيرة - يستخدم الصين "كبش فداء" لتبرير مشاكل الاقتصاد الأمريكي. ويقوي رفض الصين المستمر تحرير سعر صرف عملتها من الاتجاه الأمريكي لاتخاذ إجراءات حمائية ضدها، وفرض تعريفات جمركية علي واردات الولاياتالمتحدة من الصين. كل ذلك قد يدفع إلي اندلاع ما يسمي "حربا تجارية" بين الطرفين، والتي يراها البعض "أكبر خطر يهدد الاستقرار العالمي في السنوات القليلة القادمة". المسرح في شرق آسيا يبدو معدا في ظل هذه الظروف لمواجهة مباشرة أو غير مباشرة بين الولاياتالمتحدة أو أحد "حلفائها" الإقليميين وبين الصين. الصين من جانبها تعمل جاهدة علي احتواء خلافاتها الإقليمية، وتدعيم علاقاتها الاقتصادية مع جيرانها، تحقيقا لسياسة "الصعود السلمي". ولكن مسار الأمور لا تحكمه السياسات الصينية وحدها، بل أيضا تصرفات منافسيها من الدول الآسيوية، والمحاولات الأمريكية لحشد الدعم الإقليمي ضد الصين والضغط عليها لتحقيق أهداف أمريكية اقتصادية واستراتيجية. ويبقي في النهاية الإشارة إلي مقال حديث كتبه المؤرخ المشهور بول كيندي(11)، يشير فيه إلي ضرورة إعادة النظر في المعاني السلبية التي تستدعيها سياسة "الاسترضاء"، (Appeasement)، والتي اكتسبت شهرتها من ملابسات محاولة القوي الأوروبية تفادي الدخول في حرب مع ألمانيا بقيادة هتلر في القرن الماضي، عن طريق تقديم تنازلات أو إرضاءات له. ي-ذكر كيندي أن هذه الفكرة لم تكن دائما تحمل دلالات سلبية، فقد قدمت الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر "استرضاءات" أو تنازلات للولايات المتحدة نفسها، مثل تنازلها عن حقوقها في ملكية 50% من قناة بنما، وتنازلات بشأن ترسيم الحدود بين ألاسكا وكندا، وذلك رغم أنها كانت لا تزال القوة البحرية الأولي عالميا. ومهدت هذه التنازلات فيما بعد لتحول سلمي للقوة من بريطانيا إلي الولاياتالمتحدة، كما وضع أساس علاقة قوية سمحت للولايات المتحدة بمناصرة بريطانيا في حربين عالميتين في القرن العشرين. لذلك، قد يكون من المناسب للولايات المتحدة، من وجهة نظر كينيدي التفكير في تقديم تنازلات، تحت شعار "التعاون" و"المشاركة في المسئولية"، في علاقاتها مع الصين. فلن يقلل ذلك، في نظره، من مكانة الولاياتالمتحدة، بل سيساعدها علي تخفيف حدة التراجع في قوتها، أو انحدارها، والذي يري كيندي أنه لا يزال بعيدا.