محمد الزواوي .. ظلت القرصنة الملاحية في القرن الإفريقي في السنوات الأخيرة تمثل تهديداً مباشراً على مصالح العديد من الدول؛ بما في ذلك دول المنطقة العربية؛ بدءاً من مصر شمالاً وحتى اليمن جنوباً، وقد ازدادت القرصنة على السواحل الصومالية إلى مستويات خطرة, وأصبحت تهدد بعرقلة التجارة العالمية، كما أن أموال القرصنة يُعتقد أن لها دوراً كبيراً في تمويل أمراء الحرب بالصومال، كما يمكن أن تصبح سلاحاً في يد مختلف الأطراف لإحداث كوارث بيئية. ولفترة طويلة ظلت القرصنة مشكلة تقتصر على منطقة مضيق ملقا بين إندونيسيا وماليزيا، ولكنها الآن أصبحت تحمل خطورة متزايدة في منطقة خليج عدن بسبب هشاشة الدول الإفريقية المطلة عليه. وشهد عام 2008م تصاعداً في القرصنة الصومالية لتحظى باهتمام صناع القرار بمختلف دول العالم، وذلك بعد عمليات اختطاف كبيرة شهدتها تلك المنطقة, ففي الأسبوع الأخير من أغسطس 2008م تم اختطاف 4 سفن, وحتى 25 سبتمبر 2008م سجّل قطاع البحرية الدولية بغرفة التجارة العالمية 61 حالة اختطاف في هذا العام وحده. ومنذ نهاية عام 2007م تحولت نشاطات القراصنة من ميناء مقديشيو إلى مياه خليج عدن، والرقم الحقيقي للهجمات أكبر من المعلن؛ إذ لا يتم الإبلاغ عن كل الحوادث لوجود نشاطات غير قانونية في المياه الصومالية، كما أن الإحصاءات الرسمية لا تقيس أثر القرصنة في حركة التجارة في المنطقة، وتشير الأرقام إلى أن هناك 16 ألف سفينة تمر من خليج عدن سنوياً، تحمل نفطاً من الشرق الأوسط, وبضائع من آسيا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، وهذا المسار الملاحي يُعد واحداً من أهم المسارات الملاحية في العالم، وأصبح اليوم مهدداً بسبب عدم الاستقرار المزمن الذي تعيشه الصومال. وقد ظلت القرصنة تمثل مشكلة في المياه الصومالية لعشر سنوات على الأقل، لكن أعداد الهجمات الناجحة تزايدت بصورة حادة في السنوات الثلاث الأخيرة,وهذا يؤكد أن وجود حكومة فاعلة في الصومال سيؤدي إلى كبح أعمال القرصنة، ففي ظل عدم وجود حكومة فاعلة, وبسبب السواحل الصومالية الطويلة والمعزولة والقاحلة, وبسبب يأس السكان واعتيادهم أجواء الحرب؛ أصبحت الصومال الآن بيئة مثالية لازدهار القرصنة. والبنية الأساسية لعصابات الجريمة المنظمة المتورطة في عمليات القرصنة على السواحل الصومالية تتمركز في مجموعتين أساسيتين؛ واحدة في كيسمايو في الجنوب, والأخرى في منطقتي أوبيا وهارارديرا, وقد أوقفت مجموعة القرصنة الأولى نشاطها في عام 2006م, ولم تستأنف عملياتها مرة ثانية على نطاق ملحوظ، في حين أن الثانية التي تُعرف باسم «المارينز الصوماليون» قد عادت إلى مناطق عملياتها بدءاً من يناير عام 2007م، وقامت تلك المجموعة بمعظم عمليات الاختطاف في عام 2007م، لكن بنهاية عام 2007م بدأنا نرى مجموعات أخرى من العصابات تتورط في عمليات القرصنة، وخلافاً للاعتقاد الشائع فإن مجموعة «المارينز الصوماليون» لا ينتمون لقبيلة واحدة؛ بل يجنّدون مسلحيهم من العديد من القبائل, وبالتالي لا يوالون مجموعة قبلية بعينها. وفي الأعوام الأخيرة قبل تكثيف الردع العسكري الدولي للقرصنة ازدادت قيمة المبالغ المدفوعة فدية بصورة حادة، وهو ما أدى بدوره إلى زيادة الدوافع لدى المسلحين للدخول في عالم القرصنة الصومالية، وأصبحنا نرى الآن ما بين 4 إلى 5 مجموعات من القراصنة بمستويات مختلفة من المهارات، وكلها متورطة في نشاطات القرصنة على سواحل الصومال، كما ازدادت المخاوف من دخول العديد من المجموعات الجديدة في عمليات القرصنة؛ بسبب الزيادة الحادة في عمليات الاختطاف, ومبالغ الفدية الكبيرة التي يجنيها القراصنة. والسبب الرئيس لازدياد عمليات القرصنة هو غياب مسؤولي تطبيق القانون في المناطق الساحلية الصومالية؛ إضافة إلى انخفاض تكلفة الدخول إلى عالم القرصنة، فلا تحتاج العصابات إلا إلى زورقين صغيرين أو ثلاثة, ومن 6 إلى 18 رجلاً, يتم تسليحهم ببنادق «s 47 AK» و«آر بي جيه»، وبعض وسائل الاتصال، وكلها أشياء يسهل الحصول عليها في الصومال. ودوافع القراصنة الصوماليين مالية بحتة؛ بالرغم من أن تلك الأموال قد يُعاد توجيهها إلى مسارات مختلفة أخرى بعد دفع الفدية، وعلى عكس التقارير الإعلامية فلم نر دلائل على أن أموال الفدية حُوّلت إلى جماعة من جماعات المقاومة في الصومال حتى الآن؛ وبخاصة الإسلاميون الذين يُعدّون أعتى أعداء القراصنة، هكذا تطور أسلوب العمل على مستويات التخطيط للهجمات, وعلى مستويات الأهداف أيضاً. من خلال العمليات السابقة نتأكد أن القراصنة يقومون بدوريات متواصلة في مناطق بعينها, وينتظرون وصول سفينة من السفن التي يظنون أنها مغرية، وكانت عمليات القرصنة السابقة قبل 2008م تستهدف بصفة أساسية سفن الشحن الصغيرة البطيئة ذات السطح المنخفض، لكن النجاح النسبي للهجمات في النصف الثاني من 2007م وفي 2008م قد زاد من كمية المخاطر التي يمكن أن يتحملها القراصنة، فهم يهاجمون اليوم كل شيء يقترب من منطقة عملياتهم؛ بما في ذلك سفن الحاويات ذات السطح المرتفع والسرعة العالية والسفن الكبرى، وكلها تُعد أهدافاً يصعب الصعود على متنها في البحر المفتوح. ومعظم الهجمات على الساحل تمت بزوارق يتراوح عددها بين زورقين وخمسة زوارق, تعمل بقيادة «سفينة أمّ» أكبر حجماً، قد تكون هي نفسها مختطفة. ولدى القراصنة في زوارقهم سلّم يصل طوله إلى ما بين 4 إلى 6 أمتار لتسلّق السفن، كما أنهم أصبحوا يعتمدون بصورة متزايدة في هجماتهم على أسلحة «s 47 AK»، و«آر بي جيه»، وأسلحة آلية, لاعتراض السفن وتحييد الطاقم في أثناء تسلّقهم السفينة. وقد اكتسب القراصنة مزيداً من الخبرات في ذلك المجال، فأصبحوا يعاملون الطاقم بصورة جيدة؛ لأنه رأس مالهم في عملية التفاوض؛ لذا يحافظون على أفراده أحياء في معظم الأحوال. ويتحرك القراصنة باستخدام زوارق صغيرة, تعمل بمحركات قوية، ويمكن سحبها إلى الشاطئ، وهي زوارق سريعة، وتتمتع بالقدرة على المناورة, لكنها تفتقر إلى المدى الكافي الذي يمكّنها من الصيد الثمين داخل المياه العميقة. وقد نشر قطاع البحرية الدولية مؤخراً تحذيراً يوضح فيه مواصفات «السفن الأم» المحتملة، وهي عادة ما تكون مراكب صيد استولى عليها القراصنة قريباً من الشواطئ, ثم بعد ذلك يستخدمونها كنقاط انطلاق لمزيد من الهجمات داخل البحر. وقد وردت تقارير من سفينة صيد يمنية, يبدو أنها استُخدمت كسفينة أمّ, تشير إلى أن القراصنة كانوا يقومون بدوريات في مدخل خليج عدن في السفينة المختطفة, ثم بعد ذلك هجروها واستقلوا زوارقهم حين رأوا الهدف المناسب، واستخدام السفن الأم يوضح كيف استطاع القراصنة أن يزيدوا من مداهم البحري بتلك الصورة الكبيرة، وفي السابق كان التحذير بأن تظل السفن على بُعد 50 ميلاً بحرياً من الساحل، لكن تلك المسافة الآن تمت زيادتها إلى مائتي ميل بحري. أثر القرصنة في الصومال: إن ازدياد خطورة القرصنة في المياه الإقليمية الصومالية قبل وضح حد لها في الفترة الأخيرة ، أجبرت برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة على وقف شحنات الغذاء المنقولة بحراً إلى الصومال، في حين أن تسليم الغذاء براً لا يقل خطورة، كما أنه لا يصلح لنقل كميات كبيرة من المساعدات الغذائية. وطبقاً لبرنامج الغذاء الأممي؛ فإن الصومال كانت بحاجة إلى 185 ألف طن على الأقل من المساعدات الغذائية في عام 2008م، وقد تم توفير هذا الغذاء بصورة مؤقتة عن طريق السفن البحرية التي صاحبت قوافل الغذاء التابعة للأمم المتحدة، ولكن المنظمة اضطرت للتوقف شهرين انتظاراً للسفن الحربية التي ترافق سفن المساعدات الغذائية. ويؤدي عدم تجهيز تلك السفن إلى أن يظل مخزون الطعام الصومالي مهدداً بصورة حادة، فالصومال دولة دون حكومة مركزية فاعلة، وتعاني الجفاف ونقص المياه، وبها أكثر من مليون نازح داخلياً؛ لذا فإن شحنات الغذاء تُعد أساسية لحياة أولئك البشر، ومن ثَمّ يجب أن يضع المجتمع الدولي في أولى أولوياته تأمين عمليات تسليم الغذاء للصوماليين، وذلك بسبب طبيعة البلاد الخطرة, والتي يتفشى فيها العنف والجوع، وينتشر فيها السلاح بحريّة في جميع الأنحاء, وهناك تقارير تفيد بوقوع عمليات يومية من تفجير وقتل ومناوشات ومعارك وخطف. وبينما يحتفظ القراصنة بأجزاء كبيرة من الأموال التي يحصلون عليها؛ يمررون حصصاً كبيرة إلى القادة المحليين الذين يتورط معظمهم في عمليات الحروب الدائرة، ومن المؤكد أن تلك الحصص الدورية من الأموال تساعد في تمويل الحروب الداخلية، وبعض التقارير تربط بين أموال القرصنة وبين بعض الفصائل التي تضعها الولاياتالمتحدة في قائمة الإرهاب، والتي ظهرت كميليشا صغيرة في أثناء حكم المحاكم الإسلامية، لذا فإن القضاء على القرصنة يمكن أن يؤدي إلى وقف الإمدادات المالية للفصائل المتنازعة، وبالتالي إضعاف قدرتهم على شراء السلاح, ومن ثَمّ وقف الحرب في النهاية. كما أن نقص الأمن الملاحي يسمح أيضاً بازدهار عمليات التهريب, والاتجار في السلاح والبشر, ويشجع على القيام بعمليات الصيد غير القانونية التي تقوم بها السفن الأخرى في المياه الصومالية؛ بسبب عدم وجود دوريات لخفر السواحل بها، وهو ما يجعلهم هدفاً سهلاً للقراصنة. أثر القرصنة في التجارة الدولية والبيئة: من البديهي أن الشركات التي لا تصل حمولتها إلى هدفها النهائي في الوقت المحدد سوف تخسر أموالاً؛ بالإضافة إلى نفقات دفع الفدية والآثار الاقتصادية الضارة لعمليات القرصنة، كما أن تداعيات ذلك ليست مقصورة فقط على الشركات التي يتم اختطاف سفنها، بل تمتد أيضاً إلى شركات التأمين التي أصبحت تخسر مبالغ طائلة نتيجة اختطاف السفن، فاضطرت هي الأخرى إلى رفع أقساط التأمين على السفن المارة بخليج عدن، وهو ما مثّل عبئاً إضافياً على الشركات التجارية، وقد وردت تقارير بأن شركات التأمين قامت برفع أقسطاها إلى عشرة أضعاف سنوياً. أما إذا زادت المخاطر عن حدها بصورة لا تُحتمل؛ فإن شركات الملاحة سوف تتجنب خليج عدن تماماً وتختار المسار الأطول, وهو طريق رأس الرجاء الصالح, متجهة إلى أوروبا وأمريكا بالدوران حول إفريقيا، وهو احتمال مطروح بشدة الآن بسبب مخاطر القرصنة، وذلك الدوران حول القارة سوف يستغرق أسابيع إضافية من الإبحار, وهو ما يؤدي إلى استهلاك مضاعف للوقود في ظل تذبذب أسعار النفط، كما سوف يتسبب ذلك في وقوع خسائر فادحة لمصر، تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً، بسبب نقص دخلها من قناة السويس. وهناك احتمالات متزايدة بانسكاب كميات ضخمة من النفط في المياه في أثناء تعرض حاملات النفط العملاقة التي تسير في خليج عدن لعمليات القرصنة؛ مما سيؤثر سلباً على النظام البيئي في المنطقة، ففي أثناء الهجوم على السفينة «تاكاياما» اخترق القراصنة خزان الوقود ليتدفق النفط إلى البحر مهدداً الحياة البحرية. كما يمكن أن تسفر هجمات أكبر عن مخاطر لا تُحمد عقباها؛ فقد أصبح القراصنة أكثر جرأة, وباتوا يستخدمون أسلحة أقوى كثيراً تمكنهم من إشعال النيران في الحاويات العملاقة, أو إغراقها, أو إجبارها على الانجراف إلى الشاطئ، وكل واحد من هذه الأخطار يمكن أن يؤدي إلى كوارث بيئية تدمر الحياة البحرية وحياة الطيور لعدة سنوات قادمة، وإذا كان هدف القراصنة هو ابتزاز أموال الفدية, وهو لا يزال تركيزهم الأهم حتى الآن؛ فإن احتمال تدميرهم للسفن لا يزال خياراً وارداً بشدة. أما السيناريو الأسوأ فهو أن يصبح القراصنة عملاء للإرهاب الدولي، وحتى الآن لا توجد دلائل على حدوث ذلك سوى الهجوم على المدمّرة الأمريكية «يو إس إس كول»، إلا أن الإرهاب البحري لا يمكن تجاهله، فإذا تم إغراق سفينة عملاقة متجهة إلى قناة السويس فسوف يكون لذلك آثار مدمرة في التجارة الدولية، فالإرهاب البحري يمكن أن يتخذ أشكالاً عدة: مثل هجمات مباشرة على السفن البحرية أو التجارية, كالهجوم في السادس من أكتوبر عام 2002م على السفينة «ليمبورج»، حيث تم أسر طاقمها واستخدامهم كورقة مقايضة للإفراج عن آخرين، كما يمكن استخدام السفن المختطفة كأسلحة عائمة في حالة تحميلها بمتفجرات؛ يمكنها الارتطام بسفينة أخرى لتفجرها. اتجاهات جديدة في عالم القرصنة: كانت معظم عمليات القرصنة تتمركز في جنوبالصومال وفي منطقة ميناء مقديشيو، لكن اليوم، طبقاً لإحدى مجموعات المراقبة التابعة للأمم المتحدة، ساعد بعض مسؤولي ميناء مقديشيو في تسهيل العديد من الهجمات ووقعت غالبية الهجمات في منطقة خليج عدن الذي يُعد من أهم مسارات الملاحة في المنطقة, حيث تمر به ما يقرب من 16 ألف سفينة سنوياً، ويمثل صيداً ثميناً مقارنة بميناء مقديشيو، فالشكل المخروطي لخليج عدن جعل من السهل رصد السفن في الخليج, وجعل ملاحقتها أسهل أيضاً؛ مقارنة بالساحل الجنوبي للصومال الذي يعد شاسعاً نسبياً, ويمكن تفاديه بالمرور داخل المياه المفتوحة. كما حسّن القراصنة من معداتهم، ويستخدمون الآن أنظمة GPS لتحديد الأماكن والهواتف التي تعمل بالأقمار الصناعية, إضافة إلى مناظير الرؤية الليلية التي تساعدهم على الهجوم ليلاً وإفزاع الطاقم وإجباره على الاستسلام، كما استطاعوا الدخول إلى الشبكات الدولية التي تمدهم بمعلومات عن الموانئ في منطقة الخليج العربي وأوروبا وآسيا، كل ذلك ومع استخدامهم للسفن الأم أعطاهم قدرات أعلى فيما يتعلق بالعثور على السفن والاستيلاء عليها؛ لذا لم يعد القراصنة مجرد انتهازيين يبحثون عن الفريسة، ولكنهم أصبحوا أكثر تعقيداً, ومن المتوقع أن يستمروا في تطوير اتجاهاتهم إذا لم يوجد رادع لمخططاتهم، كما أنهم أصبحوا أكثر تنظيماً ودقة واحترافية بالنظر إلى مستوى نمو نشاطاتهم قبل انحسارها.