مودعا العالم الذي انتقده بقسوة خاصة وأحبه بعمق أخص يرحل هارولد بنتر في لحظات احتضار العام الميلادي 2008، منضما بذلك لقائمة الراحلين الذين حاولوا تعرية وجه القبح الإنساني المعاصر أملا في بديل، ولعل أسرع ما يتوافد إلى الذهن مع إعلان رحيل هذا العملاق المسرحي كونه لم يكن مجرد كاتب يحمل رؤية خطها على الورق في لحظة توهج استثنائي ضمه فيها مكتبه المغلق دون رمادية السماء اللندنية، فالرجل كان أبعد من أن ينعزل - ككثير من مثقفينا - في برج عاجي عن النبض الحي للإنسانية، فخلال مسيرة عمر امتدت لما قارب الثمانين عاما كان هذا الإنسان في قلب دراما الواقع المعيشي للإنسانية مشتبكا رافضا مشحونا مصارعا متوترا موترا لصناع القبح والاستبداد في العالم. في أكتوبر من عام 1930 ولد بنتر في الوست إند، حي الأغراب والعمال، ولد لأب يعمل حائكا للملابس، لم ينل الصبي من التعليم الأكاديمي إلا سنوات محدودة ليلقى بعدها وهو لم يتجاوز سن الطفولة إلى قلب الصراع الأكثر أصالة في تاريخ الإنسانية، وهو صراع لقمة العيش، فيعمل بوابا لأحد النوادي، ويتدرج، فيصل ليكون سائقا لحافلته من بعد، ما تلبث غواية المسرح أن تناديه، حيث يتيح المسرح هذا اللقاء الحي بين البشر الذي يستطيع عبره أن يتحدث إنسان إلى إنسان مفضيا بما لديه دون واسطة تقنية، يستجيب المراهق لغواية محادثة البشر عبر أدوار ثانوية ظلت تعهد إليه فقط في حالة تغيب أحد الممثلين واختار خلالها لنفسه كنية فنية هي (دافيد بارون)، متجاوزا حقيقة وضعه الحقيقي بالخيال، ومع سنوات عمله بفرقة مسرح الرويال كورت يعثر الشاب على طريقه الحقيقي، إذ يجد أن طموحه يتجاوز تكرار كلمات مؤلف آخر فيبدأ الكتابة بنفسه، غير أن المفارقة أن لحظة شروعه في الكتابة كانت لحظة درامية زخمة في تاريخ الصراع بين أمته وأمتنا. فبعد حرب شرسة تداخلت فيها مصالح ثلاث قوى مغيرة هي إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر، فيما عرف تاريخيا بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تفجر الغضب بين صفوف جيل من الكتاب الشباب الإنجليز، والغضب ليس تعبيرا مجازيا يتحاذق به على القارئ، بل على العكس يجده المطالع لأدبيات الكتابة في تلك اللحظة الكاسرة، إذ يجد توصيف «جيل الغضب» توصيفا أطلق على ذلك الجيل الذي استنكر أن تدخل أمته المعروفة حتى سنوات قريبة من تلك اللحظة «بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» في تحالف مع دولة عمرها لا يتجاوز الثماني سنوات لتغير على إحدى مستعمراتها السابقة، بعد أن طرحت نفسها كأحد روافد الحرية في الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية والنازية، ثم تقوم بالتحالف مع شركاء لمقاومة واحدة من حركات التحرر ويهزم التحالف الثلاثي سياسيا، ولا يستطيع تمرير قناعته للعالم بعد أن أحرجته المقاومة الشعبية في قناة السويس، في تلك اللحظة ينشأ جيل الغضب الذي يراجع جيل الآباء الكبار الذين لم يحترموا شيبتهم أو شيبة أمتهم، إن صح التعبير، ويؤرخ لظهور جيل الغضب بمسرحية جون أزبورن «انظر خلفك في غضب»، وهو التيار الذي يكون هارولد بنتر من ركائزه. تأتي أعمال بنتر في تلك المرحلة فتعكس حالة الإفلاس الوجداني الغربي الذي يقف على مشارف هاوية وفناء جسدته حربان عالميتان متواليتان فصلت بينهما فترة لا تكاد تذكر في تاريخ الإنسانية، يضاف إلى ما أثمرتهما من ويلات نهاية الحرب ذاتها، والتي لا تقل مأساوية عن ملايين القتلى والخرائب والانتهاك لأبسط معاهدات التعايش والتفاهم السلمي، إذ تنتهي تلك الحرب بتهديد أكبر وأنكى للقادم، عرف آنذاك بالرعب النووي، فإن كانت الوقائع القومية المعاصرة لهذا الجيل قد أنتجت جيل الغضب، فإن الوقائع الدولية في نطاقها الزماني والمكاني قد أنتجت ما عرف بتيار العبث، والذي يعد هارولد بنتر بالمثل أحد قوائمه. جيل الغضب جيل محاكمة عالم الآباء القاسي الجاف الخرب الذي تصل حدود الصراع على السلطة فيه لحدود تجاوز وتجاهل الماضي والعبث بالمستقبل وذبح أي إمكانية للتواصل، لذا كانت كتابات تلك المرحلة هي كتابات الثرثرة والكلام، وهو سلاح الشخصيات المذبوحة داخليا، لكنها لا تملك إلا هذا الحديث الهستيري المتلاحق الذي تكافح به الفناء، إذن كانت تلك اللغة الخالية من الروح المتواثبة المشحونة المتفجرة الهستيرية هي مواجهة منتحبة مع الرطان والكلاشيه الاستعراضي الزائف المزهو للساسة الذي فقد محتواه ومصداقيته حين أنتج العدوان الثلاثي وربيع براغ وغيرها.. قل مثل ذلك وأشد في تيار العبث. فتيار العبث هو تيار اليأس من إمكانية التواصل البشري، تيار البشر كجزر معزولة عن بعضها البعض، تيار استنكار اللغة كأداة لخلق مثل هذا التواصل، تيار انتظار ما لن يجيء، تيار الدوران في حلقة مفرغة من المعنى والجدوى، تيار الغربة والضياع والتشيء، تيار حمل رسالة انتحارية مفادها أنه لا رسالة يمكن أن توجه لهذا العالم فلا مستقبل ولا مستجيب «فليس ثمة ما يقال».. تيار واكب سحق إرادة العدو بعد الانتصار عليه، تيار قنط من المنجز الحضاري الذي أنتج نجازاكي وهيروشيما وحربا باردة جثمت منذرة بفناء قادم لا محالة ولو بعد حين. فإن كان الغضب قد أزاح عنه الستار جون أوزبورن وجون أردن وأرنولد ويسكر، وإن كان العبث قد نفثه صامويل بيكيت، ويوجين يونسكو، وجورج شحادة، فإن خصوصية هارولد بنتر أن وجدانه قد كان بوتقة تداخل فيها بعض من هذا ببعض من ذاك، حتى أن أسلوبه المميز ذاته عرف بالبينتريسك، والنسب لاسمه كما هو جلي، فالرجل وإن كان معترضا كل الاعتراض على الأوضاع الإنسانية المعاصرة ويعرض لها بكثير من القسوة ولا يكاد يستشرف منها مخرجا، فإنه لم يقنط من توجيه تلك الرسالة ذاتها، حتى إن لم تجد أذنا مصغية، لقد كان كذلك الذي يقف فوق الجبل في ليلة قارصة ليطلق من أنفاسه الدافئة شيئا يظن أنه يواجه به برودة العالم، غير مؤمن بأن ذلك سيغير شيئا، لكنه يكون بذلك قد فعل ما استطاع. إن البعد الاجتماعي أو دور الفنان بهاجس إنساني موقع لم يغادره بنتر، لكنه كذلك لم يستقر فيه تماما، ذلك أنه أبدا لم يصل لحدود دور وظيفي لما عرف بفن الرسالة أو الفن الملتزم.. من هنا تتولد خصوصية هذا الكاتب الذي كانت كتاباته جزءا من مواقفه، لكن مواقفه لم تقف عند حدود الكتابة فحسب، فإن كانت أعماله مثل الحجرة، حفلة عيد الميلاد، الأيام الماضية، الأرض الحرام، المجموعة، الحارس، العودة إلى الوطن، لغة الجبل، هي أعمال تعكس تهافت الإنسانية وإفلاسها المعاصر، فهي بالمثل تقدم قضاياها، ولكن برهافة معينة ودون خطابية أو مباشرة. فلغة الجبل مثلا تعرض لقرار حكومي صدر بمنع التحدث بلهجة معينة في اللحظة التي تأتي فيها عجوز لتزور ابنها المعتقل، لكنها لا تستطيع أن تتحدث بغير اللغة التي اعتادتها طوال عمرها والتي لا يستطيع قرار حكومي محوها، العجوز ليست مناضلة ولا تدافع عن تراثها، إنها فقط تريد أن ترى صغيرها، لكنها لتفعل ذلك ينبغي أن تتحدث، وممنوع عليها ذلك، فالسلطة لن تفهم إلا المتحدثين باللغة التي طالبت الناس بالحديث بها، وزوجة أحد المعتقلين جاءت لترى زوجها فيتحرش بها رجل الأمن فينبه الضابط إلى أنها ليست متهمة بعد ليفعل بها ما يشاء، وهي حين تسأل عن رجلها يستنكرون بكون رجلها مثل أي من هؤلاء الحرس، ويعطونها أحدهم أو بالأحرى، يعطونها لأحدهم.. سلني عن النهاية أقول لك: لا نهاية لما يحدث! نعود لفكرة مواقف الرجل التي تنعكس في سلوكياته مثلما تنعكس في كتاباته، لقد رفض بنتر صبيا التجنيد، وأعلن ذلك بعريضة وصف فيها موقفه «معارض حي الضمير»، وحوكم على ذلك أكثر من مرة، وحتى في مرحلة تسليط الأضواء عليه ككاتب كبير خلال حفل تكريم أرثر ميللر ومنحت لبنتر فرصة الحديث تصور البعض أن اللياقة الإعلامية والبريق سيحول دون توجيه انتقادات مباشرة للولايات المتحدة خاصة بحضور سفيرها، لكن بنتر لم يدع الفرصة وأحرج السفير للحد الذي جعل الأخير يطالب بخروج بنتر من الحفل، فما كان من المكرم نفسه ميللر إلا الخروج بصحبة بنتر تاركين الحفل للسفير، يضاف إلى ذلك مواقف محددة ورافضة للتسلح النووي وانتهاكات حقوق الإنسان، والحرب على أفغانستان، والحرب على العراق.. إن البهرجة الإعلامية أو وهج التكريم لم يكن ليسكت بنتر الذي ما خلا خطابه في 2005 الذي ألقاه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل من توجيه الانتقادات لجورج بوش وتشبيهه بهتلر وتشبيه أمريكا بالنازية والفاشية. رحل هارولد بنتر بعد أن أدى كثيرا مما ألزم به نفسه، فحكى للإنسانية متى شاء وأينما شاء وكيفما شاء، وبلا رتوش أو تزويق أو تصنع، بعضا من حكايتها العصية أبدا على الفهم.. رحل بنتر! *كاتب وناقد فني