وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالله عبدالجبار .. مقالات عكست قوة الطرح ونفاذ البصيرة الثقافية (6 - 7)
نشر في البلاد يوم 06 - 01 - 2009

في الجزء السادس من موسوعة الاديب عبدالله عبدالجبار والتي قام بتأليفها الاستاذان محمد سعيد طيب وعبدالله فراج الشريف وقامت بنشرها مؤسسة دار الفرقان للنشر والتوزيع ممثلة في صاحبها الاستاذ احمد زكي يماني حمل الجزء السادس كافة المقالات التي كتبها الاديب عبدالله عبدالجبار مع العلم بأنه عندما بدأت اللجنة المكلفة باعداد مجموعة الاستاذ الكبير عبدالله أحمد عبدالجبار جمع مقالاته كانت تعلم انها مهما بذلت من جهد فلن تستطيع حصرها كلها في صعيد واحد، وقد امتدت فتراتها الزمنية منذ خمسينيات القرن الميلادي الماضي وحتى العقد الاخير منه، وان كان جلها قد استوفته اللجنة، التي قررت انها لن تعرض منها الا ما اتسق مع منهج الاستاذ في الادب والنقد مجاله الاساسي، ولم يكن من طموحها جمع سائر مقالاته، وفيها مقالات صحفية، يناقش فيها الاستاذ موضوعات يتكرر طرحها من كتاب الصحف في كل وقت، وفيها مقالات مناسبات ينتهي اثرها بانتهاء زمن المناسبة، وقد اجتمع لدى اللجنة ثلاث مجموعات رئيسية ثم انتقاء هذه المقالات الواردة في هذا الجزء الاول، ما اجتمع لدى اللجنة من صور المقالات التي احتفظ بأصولها استاذنا الكبير في مكتبته، وما احتفظ به افراد اللجنة منها في ملفاتهم، والثانية: قدمها الاستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي، والذي ظل يوافي اللجنة بكل مقالة للاستاذ يجدها وكل مقالة كتبت عنه طوال عمل اللجنة الدؤوب لاخراج هذه المجموعة الكاملة لاعمال الاديب عبدالله عبدالجبار.
طفولة العملاق
أو متى ولد العقاد..؟!
مهما تبلغ عظمة الاديب في انتاجه الفني او الثقافي فإن حياته نفسها اعظم الف مرة من انتاجه ذاك فمن البديهي انه لولا هذه الحياة، او لولا مقوماتها لما كان ذلك الانتاج في روعته وابتكاره، في خصوبته وثرائه في عمقه واتساعه..
وهذه الحقيقة نفسها تنطبق اكثر ما تنطبق على الكاتب العبقري العملاق، عباس محمود العقاد، لقد طبع للعقاد حتى الآن مائة كتاب اخرها كتاب (أنا) الذي اشرف على تنسيقه وتبويبه، وكتب مقدمته بل كان سببا في تأليفه - الاستاذ طاهر الطناحي - وقد سماه العقاد (عني) فآثر له الطناحي اسم (انا) وهذا الكتاب يضع في يد القارئ بضعة مفاتيح لدراسة شخصية العقاد (الانسان).. العقاد كما يراه العقاد نفسه لا كما يراه الناس.
وقد طبع هذا الكتاب بعد وفاة (العقاد) اما الكتاب الواحد بعد المائة فهو ديوانه الشعري الاخير (ما بعد البعد) وهو لم يطبع بعد.. هذا اذا لم تخرج المطبعة قبله اجزاء متلاحقة من (يومياته) التي صدر منها الجزء الاول في حياته..
ومن العجيب ان الذين تحدثوا عن العقاد في الصحف او الاذاعة او التلفزيون.. او ندوات التأبين لم يعن احد منهم نفسه بعمل احصاء لانتاج هذا الكاتب الكبير فمن قائل انها جاوزت السبعين ومن قائل انها جاوزت الثمانين، من قائل انها اكثر من سني عمره.. يحدث هذا وهو من اكبر الكتاب العرب في القرن العشرين، الى ان جاء الاستاذ عبدالعظيم ابراهيم المطعني فنشر في العدد (1056) من الرسالة ثبتا بكتبه، غير انه لم يسلم من الخطأ سواء في الخلط بين العناوين او احتساب الطبقات المعادة، او التحريف في تاريخ صدور بعض الكتب او نسبة كتاب ليس له ككتاب (الاسلام والتجديد) لمؤلفه (شارلز آدمز) الذي ترجمه الاستاذ العقاد.. وقد اخذت الغيرة العلمية الاستاذ (احمد ابراهيم شريف) فقام بتصحيح كل تلك الاخطاء في العدد (55) من الرسالة ايضا وقسم مؤلفات العقاد الى ست مجموعات هي: أ- الشعر ب - النقد والادب واللغة ج - الفلسفات والاديان والمذاهب الاجتماعية د - السير والتاريخ ه - القصص و- المجموعات المصنفة.. وبلغت عدتها المائة كتاب كما أشرنا.. وهذا الثبت - في رأيي - اقرب الى الصحة.. وربما انطوى في هذا الاحصاء كتيب او مقالة كنقد (كتاب فلسفة الثورة) او سلسلة من المقالات في موضوع واحد نشرها العقاد في هذه الصحيفة او تلك.
كذلك وقع خطأ - لاشك انه مطبعي - في الدراسة الوجيزة القيمة التي قام بها الاستاذ بيومين ولم يكن والده قد صرف مرتبه بعد اما شهادة الميلاد فقد سجلت مولده يوم التبليغ عنه لا يوم الميلاد!
الطفل الاسواني الصغير كان منذ نعومة اظافره كبيراً.. لداته في المدرسة الابتدائية يلبسون البنطلونات القصيرة، وهو يأبى أن يلبس الا البنطلون الطويل!
كان اقرانه يلعبون لعبهم العادي المألوف، وكان هو يترك حلبة اللعب ليتملى من جمال الازهار انها حاسة الفن في الاديب الصغير!
كان الناس كبارا وصغارا يغنون ويطربون ويضحكون في الافراح، وكان هو وحده يترك مهرجان الزفاف ليجلس على كثبان الرمل يتأمل في عظمة السماء وسحر الكواكب والنجوم.. انها لذة التأمل في الفيلسوف الصغير!
وكان نظراؤه يلعبون بالرمل والطين، وكان هو يهوى مراقبة الطير والحيوان.. الطيور المهاجرة تمتلئ بها اسوان في بواكير الصيف وبواكير الشتاء.. هاهي ذي تستهويه.. فاذا هو يتتبع سرباً منها وعيناه الفاحصتان ترقبانه وهو يحط على الارض ويرتفع عنها حتى يضل طريقه في الصحراء ولم يعد الى منزله الا بعد هبوط الظلام! انها نزعة الباحث في العالم الصغير!
هكذا كان العقاد كبيرا وهو صغير.. وهذا كانت الارهاصات العجيبة لذلك المزيج العجيب من العلم والادب والفلسفة الذي كون فيما بعد شخصية هذا المفكر العملاق!
ولكن هذه الارهاصات في هذه السن الباكرة لم تكن لتجدي نفعاً، بل وربما كانت سحباً لا تلبث ان تنقشع عن - لا شيء - او لم يجد العقاد نفسه ولو لم يستفد من الدروس في سني حياته الاولى، ولو لم يكن يملك عنصر التحدي ذلك المفتاح السحري لشخصية العقاد الضخمة!
عندما آب بعد ضلاله في الصحراء خلف اسراب الطيور المهاجرة، وعرف اهله وزملاؤه السبب اوسعوه نقدا وتنادراً وجعلوا منه اضحوكة سخرية.. وعندما افتقدوه في حفل الزواج وخرجوا بالمشاعل يبحثون عنه، وعلموا انه يناغي نجوم السماء راحوا يقهقهون.. ولولا اليقظة التي كانت ملء عينيه لقالوا طفل حالم او طفل مخبول.
وهكذا وجد الطفل ألا تفاهم بينه وبين الناس في بيئته فانطوى على جد نفسه وعزلها ليسلم من الضحك والسخرية الى ان يغيره الله فيهتدي كما اهتدى سائر خلق الله.
وكادت هاتان الحادثتان تقتلان في نفس الطفل روح البحث والتأمل والتملي لولا خلق التحدي ولولا ان المصادفات وضعت بين يديه صحائف يقرأ فيها ان بعض الشعراء ومحبي الطبيعة يعتزلون العالم ليمتعوا النظر بصورة من تلك الصور السماوية.. وفي جزء قديم من المقتطف صدر عام 1899م يقرأ ان مراقبة الطير شغل شاغل لبعض العلماء والرحالين، وان حركة الطائر وهو يتقدم ويتأخر او يأكل ويشرب أو يغني ويلعب مسألة ذات خطر وليست سخرية لمن سخر.
من أدباء الحجاز
عبدالعزيز الزمزمي 900-976ه
ان كنت، أيها القارئ الكريم - من اهل مكة المكرمة، او لم تكن من اهلها وقد اتيح لك ان تستمتع بتلك اللحظة الروحية، لحظة الغروب بالمسجد الحرام وقد اخذت مكانك خلف بئر زمزم انتظارا لاداء فريضة المغرب، فلا ريب انك قد شهدت في (منظرة) مقام الشافعي رجلا مرتديا جبة بيضاء او سوداء او بين هذين من الالوان قد لاث عمامته على رأسه في رفق، واخرج من جيبه ساعته العتيقة مدلاة من شريط اسود ثم نظر فيها ثم رفع رأسه الى اعلى قليلا، بعد ان وضع يده اليمنى على خده وصدغه، وابهامه على صماخ اذنه، ثم ارتفع صوته بالأذان صوب السماء بتلك النغمة التقليدية: الله اكبر الله اكبر، وهو يميل لفظ الجلالة امالة طويلة ويخطف لفظ اكبر خطفة سريعة، يكررها هكذا اربع مرات، ولا يكاد صوته ينطلق حتى تتجاوب المآذن بنداء السماء، وحتى تنطلق افواه المصلين وقلوبهم وأرواحهم بترجيع النداء.
هذا الرجل - أيها القارئ الكريم - هو احد افراد اسرة (الريس) التي اختصت بأن يكون لها شرف (رئاسة المؤذنين) في المسجد الحرام. ومن هنا كانت تسميتها (بالريس) بعد أن كانت تسمى في التاريخ بأسرة (الزمزمي) نسبة على بئر زمزم.
وعن شخصية من شخصيات هذه الأسرة سيكون بحثنا هذا، فتعال معي إذن نعبر جسر الزمن لنطل على تاريخ هذه الأسرة بمكة في القرن الثامن الهجري.
هذه الأسرة تنتمي الى علي بن محمد بن داود البيضاوي الشيرازي الأصل: وقدم علي بن محمد هذا الى مكة في سنة ثلاثين وسبعمائة هجرية عام قدمها الفيل من العراق فباشر عن الشيخ سالم بن ياقوت المؤذن في خدمة بئر زمزم. ولما أنس فيه الرشد والخير والكفاية آثره بخدمة هذه البئر متنازلا له عنها، وزوجه بابنته فولد له منها ولده أحمد وغيره من إخوته، واصبح في عقبه امر البئر ومعها ساقية العباس رضي الله عنه. بعد ذلك تعال معي ننحدر مع الزمن لنشرف على القرن التاسع الهجري وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة حيث نشهد ميلاد عبدالعزيز الزمزمي وهو موضوع هذا البحث، ففي سنة تسعمائة هجرية كان ميلاد هذا العالم الأدبي بمكة، وكانت بواكير طفولته في بوكير القرن العاشر الهجري، وعبر حياته الطويلة الحافلة بالتدريس والإفتاء والصلاح والتقوى والرحلات المختلفة إلى مصر والشام والمدينة واليمن وبلاد الروم حتى وافاه الأجل المحتوم وهو في السادسة والسبعين من عمره، وتوفي بأم القرى.
ويمضي نسبه على النحو الآتي:
عبدالعزيز عزالدين بن علي عبدالعزيز بن عبد السلام بن موسى بن أبي بكر بن اكبر بن أحمد بن علي بن محمد بن داود البيضاوي.
ثقافته وكتبه:
وقد أخذ العلم عن كبار المحققين وجدّ واجتهد حتى ذاع صيته وبز اقرانه، وأفاد كثيراً من العلم والتجارب من أسفاره المتعددة، وكان شافعي المذهب، وقد ارتحل إلى مصر في ريعان شبابه يطلب العلم على ايدي علمائها الأجلاء.. ومن مشايخه أحمد بن موسى بن عبدالغفار المالكي الذي مدحه قصيدة مطلعها:
اريج مسك الاسحار
فاح خلال الازهار
وقد تفتقت عقلية الزمزمي حسب امكانيات عصره وكما سمحت له ظروف حياته عن مؤلفات شعرية نثرية منها:
1- الفتح المبين في مدح شفيع المذنبين.
2- فيض الوجود في شيبتني هود.
3- شرح على مقامات الحريري.
4- (نظم علم التفسير) وهو منظومة لطيفة كان الطلاب ولا يزالون يحفظونها بمدرسة الفلاح بمكة، ولها شرح للشيخ منصور سبط الطبلاوي سماه (منهج التيسير الى علم التفسير) وللسيد محسن بن السيد علي المساوي المكي شرح لها سماه (نهج التيسير على نظم شارح اصول التفسير) طبع في سنة (1352ه) وللسيد علوي مالكي العالم المكي المشهور في العصر الحاضر حاشية على الشرح المذكور سماها (فيض القدير) وللشيخ يحيى امان العالم المدقق والاصولي البارع بمكة شرح سماه (التيسير على منظومة علم التفسير).
في الميزان
الاستاذ حمزة شحاتة
كاتب متمكن من صناعة القلم ومتحدث بارع الحديث وشاعر خصب الشاعرية، طويل النفس في قصائده اذا شاء قصير، لم اكد اقرأ بعض شعره في هذه المجموعة حتى احسست بان فنه يرغمني على احترامه. وقد اكسبه تمرسه الآداب العربية القديمة جزالة في اللفظ ورصانة الاسلوب.
قصيدته (الشاب) من الادب القوي الفحل، وهي تمضي على النحو الآتي:
من للغلاب سوى الشباب
اذا تكاتفت الصعاب
الموفضين الى الوغى
يتواثبون على الرقاب
والسابحين في العباب
يغالبون قوي العباب
والراقصين على الثرى
والطائرين على السحاب
الصاخبين اللاعبين
الباسمين على العقاب
ويستمر في وصف تلهبهم على الصراع وان لا شيء يصدهم عن اهدافهم،
فكأنهم عشقوا الفنا
فلا ارتداد ولا انقلاب
ثم يسجل انهم لايعرفون اليأس وفي دمهم تستكن غيرة الحر على الحرمات:
غاروا على حرماتهم
والحر يأنف أن يعاب
يهيب بهم ان ينقذوا اشرف الحضارة، وان يدفعوا عنه النقيصة:
فالمجد للحر المظفر
لا لممتلئ الوطاب
اغلى المبائ ما اقام
الحق محمي الجناب
والنصر جني الحراب، فلتسيروا على سنن القنا ولتخوضوا الضباب ولتفوزوا بالظفر فأنتم:
اشبال آساد اشرى
والأسد لا تخشى الذئاب
وقد ثملت تلك الكلاب بالدماء البريئة
ولقيتموه بالعتاب
وقد تهونت العتاب
اللين لم يقعد بها
فتعجلوها بالعقاب
النصر داعية اهاب
بكم وغايته اصاب
سجلتموه على البحار
مؤازراً وعلى اليباب
تاريخكم بأكفكم
فلتكتبوه بالملاب
وما أجمل هذا الختام لولا كلمة (الملاب) التي تصدم بعض القراء وهي طيب يشبه الزعفران ولعل عذر الشاعر انه لا يغني عنها لغيرها.
والاستاذ حمزة شحاتة شاعر ذو مزاج انفعالي، يقوده في شعره عقل رتيب منظم يميل الى التعمق، وهو يتارجح بين النزهة الانطوائية والنزعة الانبساطية، وتتجلى نزعته الانبساطية في قصيدة (الشباب) التي سبق تحليلها، اذ يعتبر موضوعها خارجيا وجرسها ذا رنين، والفاظها تتسم بسمة القوة وهذه هي ميزة الاسلوب الانبساطي.
الاسكوبي
لا اريد في هذه العجالة ان اكتب عن شاعر المدينة ابراهيم بن حسن الاسكوبي ترجمة دقيقة مفصلة ولا ان اتناول بالبسط والتحليل قصة حياته بمكة والمدينة وصلاته بالولاة الاتراك. وعلاقاته بالشريف عون والشريف علي باشا وغيرهما من الاشراف. ولا ان ارسم لك خط رحلاته الى مصر والشام وتركيا، واصحبك معي في رحلة تاريخية الى ان تشاهد انتقاله الى الدار الباقية بالمدينة المنورة في غرة جمادي الاولى سنة 1331ه.. لا اريد هذا ولا ذاك، وانما اريد ان اسجل لمحات خاطفة عن ثقافته وشعره واولوياته لعلها تلقي بصيصا من الضوء، ويكون بها بعض الغناء لمن يهتمون بتسجيل اطوار النهضة الادبية في الحجاز الحديث.
ثقافته:
لم يكن الاسكوبي خطيب المسجد النبوي رجل دين يعنى بالثقافة الدينية فحسب وإنما كان الى ذلك اديبا يعنى بالثقافة الادبية وبتزويد عقله بالوان المعارف والثقافات فقد كان طلعة يقرأ الكتب اصيلة في العربية او معربة اليها: وقد قرأ - فيما قرأ - (الياذة) هوميروس شاعر اليونان الاكبر معربة شعراً بقلم (سليمان البستاني) قرأ الالياذة في ذلك السفر الضخم الذي يقع في (1260) صحيفة من القطع الكبير، والذي يضم مقدمة طويلة في هوميروس وشعره وآداب اليونان والعرب وشرحاً ادبياً تاريخياً به مقارنات لطيفة بين الادب العربي وآداب الأمم الغابرة ولا سيما اليونان، واستشهادات وتعريفات بمئتي شاعر عربي ما بين جاهلي ومخضرم ومولد، فضلاً عما به من شعر الاعاجم.
قرأ ذلك السفر الضخم، وتأثر به واضاف الى ذخائره الروحية تراثاً جديدا من الشعر والثقافة.. ثم اهتزت اوتاره الشعرية فراح يهتف بقصيدة يحيى بها (البستاني) يقول فيها:
خلب اللب ما نظمت واطرب
واتى شرحه بما هو اطرب
لا تلمني اني فتنت بتأليفك
فالفضل عن مزاياك اعرب
ان يقل هوميروس شعراً عجيباً
فلعمري تعريبه منك اعجب
او اتى في نسيجه بغريب
فنسيج نسجته منه اغرب
كان عند اليونان معناه عذباً
فنقلت المعنى كما هو اعذب
الى ان يقول:
وندبت الآداب تحت لواء
لك بالحمد في فنائك ينصب
ومزجت اليونان بالعرب شعرا
في كتاب عذب المقاصد معرب
وكان الاسكوبي في قراءته نقادة وذواقة، يميز بين الغث والسمين، وينتقد ادعياء التأليف والتعريب.
كان وثيق الصلة باستاذه العالم الشاعر الشيخ عبدالجليل برادة الذي كان يجيد العربية والتركية والفارسية، والذي كان له تأثير في حياته العقلية والأدبية.
حذقه للتركية
ولم يكن الاسكوبي يستقي من معين الثقافة العربية وحده. وإنما كان ينهل ايضا من منهل آخر، إلا وهو اللغة التركية وآدابها. وقد نقل الى الشعر العربي طرفا من الشعر التركي. وربما اضطرب في نفسه شيء من هذه المعاني الواردة في الآداب التركية. فإذا هو يمده بفيض من ذات نفسه، ويرسله شعراً عربي البيان ومما عربه قصيدة شاعر تركي جاء فيها:
حياة المرء أعذبها عذاب
وأهنا العيش - لو حققت - صاب
وما بي حسرة من فقد عمري
وفقد العمر عندي مستطاب
وان تلك حسرة عندي فلم لا
سريعاً بالمنية لا أصاب
كأني كلما أبصرت حالي
وما أنا فيه زاد بي العجاب
بوصفي منزلي وبما أعاني
بسكناه يلوح لك الجواب
كأني منه في نفق عميق
وفيه حين يغلق منه باب
محل تنفر الجنات منه
وتجزع أن تؤخره الضباب
وفيه تقطع الآمال بدءاً
فليس لها على الذهن انسياب
وتجري فوق حائطه الأماني
فلا يبقى لصاحبها ارتقاب
كأن من السكون المحض شيدت
جوانبه وليط به الخراب
الحطيئة والشعور بالنقص
بخله وحرصه على المال وأسبابهما:
وهذه العقدة النفسية التي اندست في عقله الباطن جعلت منه حريصاً شديد الحرص على المال، نهما عظيم النهم إليه، حتى كان أحد بخلاء العرب المشهورين وهم: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدؤلي، وخالد بن صفوان.
وقد بلغ من بخله الذي كان وليد حرمانه وحنقه على الناس وشدة كرهه لهم أن كان يطرد الضيفان، ويستكثر عليهم أن يتفيئوا ظلال بيته..فقد مر به رجل وهو في غنم له، فقال الرجل: يا صاحب الغنم، فرفع الحطيئة العصا وقال: إنها عجراء من سلم، فقال الرجل، إني ضيف فقال: للضيفان أعددتها.. ومر به ابن الحمامة، وهو جالس بفناء بيته، فقال: السلام عليكم: فقال: قلت ما لا ينكر فقال: إني خرجت من أهلي بغير زاد، فقال: ما ضمنت لأهلك قراك. قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك أتفيا به؟ قال: هونك الجبل يفئ عليك.قال: أنا ابن الحمامة قال: انصرف وكن ابن أي طائر شئت.
وهكذا كان الحطيئة بخيلاً شديد البخل، قضى حياته، وكأن عصا سحرية تدفعه إلى ما يريد: وما يريد إلا جمع المال واكتنازه بالحسنى إن نفعت الحسنى وبالسوأى فهي أفيد وأجدى، فان عظم نوال الكريم، قدم له عرائس المدح، وإن قل النوال أرسل عليه شرارة خفيفة من هجائه، وإن لم ينل شيئاً، أطلق خلف صاحبه شياطين شعره تلاحقه وكأنها "مقذوفات" نارية تنصب من السماء!
رضي عن آل شماس بن لأي، إذ أغدقوا عليه: فقال فيهم:
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها
وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكموا
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا أوفوا وان عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادث
من الدهر: ردوا فضل أحلامكم ردوا
العروبة والإسلام في شعر القرشي
أقصد بشعر العروبة والإسلام ذلك اللون الذي يستنهض فيه الشاعر الهمة العربية والأمة الاسلامية هازاً مشاعرها وباعثاً فيها روح القوة والحماس ناشراً مفاخرها وأمجادها مذكراً إياها بماضيها المجيد ومبادئها القويمة السامية.
وقد اهتزت قيثارة القرشي الذي يعيش في موطن العروبة ومهد الاسلام ومهبط الوحي الذي يقول فيه:
موطني يا قداسة الزمن الهادي
ويا نبع فخره وازدهاره
موطني يا صبابة الوحي في الكو
ن ومجلي العلوي في تذكاره
هتفة النور في الورى وصدى العز
ة والحب في طهور انتصاره
أقول اهتزت شاعرية الأستاذ القرشي، فكان لشعر العروبة والإسلام مكانه في ديونها "البسمات الملونة" و "مواكب الذكريات"، وأنت في ديوانه البسمات الملونة تصافح قلبك هذه الألوان من القصائد القوية المشبوبة كقصيدة "الوحدة الكبرى" ص 166 و"الجامعة العربية" "131" والشباب والعلم "140" وعزم الشباب 137. وفي ديوانه الثاني "المواكب" تهز روحك قصائد محلقة مثل الشهيد ص 125 ونشيد العروبة 45 وقبس من الهجرة 23 كما يتجلى اشعاع الإيمان والأنابة، وروح الرجوع إلى الله في قصيدته (صلاة شاعر) ص7.
فلتسمع إليه وهو يجلو لنا صورة لشهداء العروبة في فلسطين في قصيد نابض بالحياة جياش بالمعاني السامية والصياغة العالية حيث يقول واصفاً الشهيد:
ملك حمّل مجد الأبد
عبر الأرض لأسمى مقصد
بجناحين من النور سما
نحو دنيا الخلد وضاح اليد
صاغه الله شعاعاً دافقاً
لم يصغه من بريق المسجد
من عجائب الأحلام
حدثني صاحبي قال:
كانت لي جدة صالحة امتد بها العمر حتى نيفت على المائة ومع ذلك كانت صحيحة النظر سليمة البنية لم تسقط لها سن.. وقد نشأت في الأرياف في جيل لا يعنى بتعليم البنات ولها ابن بار تخرج في الأزهر الشريف وتدرج في مناصبه حتى أصبح اليوم أستاذ أصول الدين وكانت تصيخ إليه وهو يستذكر دروسه مع أصدقائه وتعي ما يقرأونه بصوت عال من القصص الديني والحديث النبوي واستيقظت ذات صباح لتقص على ابنها هذا الحلم.رأيت فيما يرى النائم أنني كنت أصلي وبعد أن فرغت من الصلاة أقبل عليّ رجل مهيب الطلعة بدأ حديثه معي بالعتاب على أني أقرأ الفاتحة في صلاتي وحدها دون أن أشفعها بسور من قصار السور فقلت له: يا بني أنا لا أحفظ إلا الفاتحة وسورة قل هو الله أحد فقال: لي ألا تحفظين سورة القدر فقلت له:لا، قال:أنا أعلمك إياها لتقرأيها في الركعة الأولى ولتقرئي الاخلاص في الركعة الثانية وبدأ يعلمني إياها حتى حفظتها.
وما أن قصت هذا الحلم العجيب على ابنها حتى اعتوره الشك وقال لها اتستطيعين أن تعيديها على مسمعي؟ ففعلت فإذا هي تحفظها، ثم قالت له يا بني: أتوجد هذه السورة في القرآن؟ فأحب أن يمتحن صدقها فقال لها: لا، فصدقته ثم طلبت إليه أن يحفظها سورة من القرآن لتقرأها في الركعة الثانية فقرأ لها سورة التكاثر حتى حفظتها، وظلت على ذلك مدة شهر.. وحينئذ تجلى له صدق حديثها، وأوضح لها جلية الأمر وأنبأها أن السورة التي سمعتها في دنيا الاحلام سورة حقيقية من سور القرآن واسمها "القدر" كما علمها الرجل في المنام.
ولم تكن هذه الجدة الصالحة إلا جدة صديقنا الأستاذ محمد الطيب النجار أستاذ التاريخ بالأزهر.
وقد ذكرني هذا الصديق بابن الفارض الذي كان ينظم الشعر في الذات الإلهية في المنام. حتى اذا صحا من نومه دون ذلك الشعر كما نظمه.
كما ذكر الشاعر الحجازي المعروف الأستاذ ابراهيم هاشم فلالي الذي كان في صغره ينهض من منامه ليقف أمام المرآة خطيبا مصقعا يشير بكلتا يديه ويردد ما حفظه من خطب في المدرسة حتى اذا شب عن الطوق وداعبته عرائس الشعر رأى نفسه مرة في منام وهو ينظم شعراً حتى اذا استيقظ في الصباح سجل على القرطاس شعراً موزوناً مقفى بلغ ثمانية أبيات لم تكن تفتقر إلا لما تفتقر اليه القصيدة عادة من صقل وتهذيب واصلاح طفيف لشعر يند عن بحر القصيد. وهذا أمر عجيب وهو على عجبه ميسور التعليل على ضوء علم النفس الحديث اذ المعروف أن عملية نظم الشعر تعتبر مزيجاً من الشعر واللاشعور فالإنسان قد تطرأ له فكرة أو خاطرة أو يتأثر بحادثة ثم ينساها.ويمضي في عمله وحياته وهو يظن أنه نسيها، ولكن عقله الباطن ينضجها ويبلورها دون وعي منه حتى اذا استوت على سوقها انتقلت إلى عقله الواعي فإذا اللحظة التي يهبط فيها الوحي، واذا القصيدة والقصة أو أي أثر فني يبرز إلى حيز الوجود وهذا عينه هو ما يحدث في نظم الشعر في المنام إذ أن هناك فكرة صهرت في بوتقة اللاشعور وحان ظهورها إلى عالم الوعي، والشاعر لم يستيقظ من نومه وحيث أن علم النفس قد أثبت أن المرء في النوم لا يفقد الاحساس والشعور كلياً. وحيث ان هذا الشعور يقوى كلما دنا المرء من الاستيقاظ فإن هذه العملية الشعرية تمت قبيل الصحو فقد كان هناك رقيب واع يسجل وينظم ويقيد بالوزن والقافية ذلك الخليط من الأفكار والخواطر والمشاعر التي تضرب في منطقة اللاوعي.
هذا عن تعليل نظم الشعر في المنام: أما حفظ سورة من القرآن فلم اهتد لتعليله علمياً اللهم إلا ان تكون السورة قد سمعتها ذات مرة منذ عهد بعيد ثم عفى النسيان عليها وبعد ذلك ظهرت في الأحلام ومهما يكن من شيء فالله على كل شيء قدير!!
عاشق الليل
حين أصدرت أديبة العراق المعروفة الآنسة (نازك الملائكة) ديوانها الشعري وسمته "عاشقة الليل" فعلق بها هذا الوصف، وإن كان حديثها عن الليل في ديوانها نفسه غير كثير، ولكن الأستاذ "شحاتة" في هذه المجموعة قد نظم قصيدة طويلة عن "الليل والشاعر" وفي ملحمته الشعرية التي تخيل فيها اصطراع العناصر الأربعة كان يروي حديثه عن الليل وفي قصيدته "وداع" كان يخاطب "الليل" ويطلب إليه أن يسامره على السهد والجوى، وحين كان ينشر في صوت الحجاز كان يذيل قصائده أحياناً بتوقيع "هول الليل" الليل.. الليل.. الليل.. دائماً.. ما أحرى شاعرنا إذن أن يسمى "عاشق الليل".
ولست أدري لماذا تذكرني قصيدتا "الليل والشاعر" و "وداع" بتلك العبارة المأثورة التي قالها "قاليراند"، ألا وهي "أن اللغة منحت للإنسان حتى يخفي بها أفكاره "ترى ألأني أحس أن شاعرنا يعاني صراعاً عنيفاً بين هذه الخواطر التي تدور بنفسه وتريد أن تتنفس وتثب إلى النور وبين تلك الموانع الاجتماعية التي تحول دون ذلك؟ ربما كان هذا ولكن من المسؤول؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.