تبدأ هذا الأسبوع،بإذن الله،زيارة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع إلى تركيا والتي تأتي ضمن إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين وتنمية وتطوير الروافد الاقتصادية والاجتماعية في كافة القنوات المشتركة بين المملكة وتركيا، حيث تكمن أهمية العلاقات السعودية التركية نظراً للاعتبارات الدينية والتاريخية والمصير المشترك ويدعم ذلك قوة اقتصاد البلدين باعتبارهما ضمن مجموعة الدول العشرين ودورهما السياسي المؤثر في إدارة التوازنات الإقليمية وحجم العلاقات التي يقيمانها على المستويين الإقليمي والدولي والحفاظ على السلام والأمن والاستقرار خاصة في الشرق الأوسط. توافق تام: اكتسبت العلاقات في العقد الأخير زخماً كبيراً نتج عنه مستوى ممتاز من التوافق والتناغم في سياستهما الخارجية وعزز ذلك وجود ثقة متبادلة بين قيادتي الدولتين، مما تمخض عنه تزايد التعاون والتنسيق في تناول القضايا الإقليمية والإسهام في الجهود الدبلوماسية الرامية للمساعدة في دعم القضية الفلسطينية ورفض الاستيطان الإسرائيلي وتعزيز الاستقرار في العراق ولبنان واليمن وأفغانستان والسودان، كما تتعاون المملكة وتركيا فيما يخص التعاون المشترك عبر الأممالمتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، حيث تعد آلية التشاور الإستراتيجي بين دول مجلس التعاون الخليجي الأولى من نوعها التي تقرها دول المجلس مع دولة خارجية، وكل هذا جاء نتيجة توافر وعي وإرادة مشتركة لدى النخبة السياسية في البلدين لتوسيع هذه العلاقات وتطويرها في شتى المجالات وصولاً إلى مستوى العلاقات الإستراتيجية. علاقات وطيدة: ترتبط المملكة العربية السعودية والجمهورية التركية بعلاقات صداقة وطيدة بوثائق الإسلام وبتعاون وتنسيق مشترك في مختلف المجالات التي تهم الحياة اليومية المعاصرة لمجتمع كلا الجانبين، كما أن الدولتين عضوان في كثير من المنظمات الدولية كالأممالمتحدة ومعظم منظماتها، ورابطة العالم الاسلامي، البنك الإسلامي للتنمية، الغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة. وعلى الصعيد الاقتصادي فإن السوقين يرتبطان بعلاقات تجارية قديمة وفي نمو وتنوع مستمر خاصة في قطاعات التبادل التجاري من السلع الغذائية والاستهلاكية والوسيطة. وخلال عقد التسعينات حصلت منتجات قطاع البتروكيماوية والمعدنية السعودية على ثقة السوق التركي فتصدرت الواردات التركية من السوق السعودي الذي اشتملت على 30 مجموعة بلغ إجمالي قيمتها عام 2002م نحو 2.6 مليار ريال مستحوذة على ما نسبته 1.5% من إجمالي قيمة الصادرات السعودية إلى الأسواق العالمية وفي المرتبة 21 في قائمة الصادرات السعودية إلى الأسواق العالمية. وامتازت الصناعات والمنتجات السعودية بالجودة والمواصفات العالمية والسعر التنافسي والتعبئة والتغليف الجيد مما جعلها تصل إلى السوق التركية بنفس حالة خروجها من مصنعها الأم في السعودية وتنافس سعرياً مثيلاتها المستوردة من الاًسواق العالمية الاًخرى.. إضافة إلى استغلال قرب الموقع الجغرافي بين السوقين في صالح المواصلات البرية. تلاقي المصالح الجيوستراتيجية: جاء الإحتلال العراقي للكويت في أغسطس 1990م ومن ثمة إخراجه بالقوة من قبل قوات التحالف بعد أن مثل تهديداً حقيقياً لأمن البلدين ومثل شبح ظهور كيان كردي في شمال العراق إلى زيادة الإهتمام التركي بالجوار العربي، ومن جهة أخرى أدت الظروف التي طرأت على النظام الدولي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات الإسلامية وعودة الروح الإسلامية لشعوبها، لتنعكس إيجابياً على العلاقات السعودية التركية لأن جميع هذه الجمهوريات لها روابط تاريخية وعرقية ولغوية مع تركيا وكذلك دينية وثقافية وروحية مع المملكة بحكم أنها مركز العالم الإسلامي الروحي، كما تطابقت المواقف السعودية والتركية تجاه الأحداث في ناغورنو كراباخ والبوسنة والشيشان. نظرة تاريخية للعلاقات الثنائية: كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، انعكاسات مباشرة على أمن الشرق الأوسط بشكل خاص وأسهمت في تغيير وتعديل في سياسات المملكة وتوجهاتها الخارجية وأهمية فتح قنوات خارج نطاق علاقاتها التقليدية مع الولاياتالمتحدة، حيث بدأت المملكة بانتهاج سياسة جديدة تسعى لتنويع العلاقات مع دول العالم مثل الصين، روسيا، والهند، وحظيت تركيا بإهتمام أكبر كونها دولة إسلامية وتمثل نموذجاً إسلامياً صاعداً. تنامي العلاقات الاستراتيجية: بعد انتخابات نوفمبر 2002، ضمن حزب العدالة والتنمية أكثرية برلمانية وظهرت في تركيا نخبة سياسية جديدة تفهم منطقة الشرق الأوسط بصورة أكبر من سابقتها بعيداً عن أي تشدد قومي، مما كان له أهمية كبيرة للمملكة، وساعدت الخلفية الإسلامية لمعظم كوادر وقيادات الحزب لتؤكد أن تحرك تركيا تجاه جيرانها العرب خيار إستراتيجي وليس تكتيكياً، وتلا هذه التطورات الداخلية التركية المهمة سقوط نظام الرئيس صدام وتزايد نفوذ إيران في العراق وزيادة المخاطر على البلدين، مما جعل الفهم الواضح للتحديات والتهديدات التي تحيط بالبلدين توحد وتصلب الإرادة وتذلل أية عقبات تحول دون العلاقات الإستراتيجية. الدور الأكبر: وكان لخادم الحرمين الشريفين الدور الأكبر في تنامي العلاقات الثنائية بين كل من المملكة وتركيا حيث منذ أن تولى سدة الحكم،حفظه الله،عمل على توحيد الصفوف الدفاع عن مصالح الأمة وخاصة الفلسطينية، حيث عبرت مبادرة السلام العربية عن إرادة مخلصة وجادة نحو تحقيق السلام العادل والدائم والشامل لأزمة الشرق الأوسط على أسس الشرعية الدولية، وتطابقت دعوة الملك عبد الله إلى الحوار بين الأديان مع وجهة النظر التركية بهذا الشأن .. زيارات تاريخية: مثلت زيارة الملك عبد الله لتركيا في أغسطس 2006م نقلة إستراتيجية في تاريخ العلاقات وجاءت نتائج زيارة مشجعة بما يعزز أهداف البلدين في تكوين شراكة اقتصادية وتحالفات استثمارية مبنية على رؤى ومصالح متبادلة ومشتركة، فعلاوة على مذكرة التفاهم السياسية تم التوقيع على خمس إتفاقيات ثنائية تعبر عن المرحلة الجديدة في علاقات البلدين وتدعم العلاقات الثنائية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية. ويعتبر الإهتمام الفعلي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز،حفظه الله نقطة تحول في العلاقات الثنائية بين البلدين. إذ أن الزيارة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين إلى تركيا عام 2007 كانت فاتحة خير لمرحلة جديدة في العلاقات الثنائية. تلاقي الرؤى الفكرية والأيديولوجية في أهمية تعزيز العمل الإسلامي: يمكن القول إن الإسلام أصبح يمثل مكوناً فكرياً مهماً لكل من المملكة وتركيا، فالنهج الإسلامي يمثل مفهوماً شاملاً يحكم السياسة الداخلية والخارجية للمملكة وهي تعتمد الإسلام عقيدة ومنهجاً، الأمر الذي جعل البعد الإسلامي ركناً راسخاً في السياسة الخارجية السعودية. تقديم نموذج متكامل: وما حدث لتركيا هو أن أصبح الإسلام متغيراً جديداً خاصة بعد وصول حزب العدالة والتنمية، حيث إن الرؤية تؤكد أن إعادة انتماء تركيا لهويتها الإسلامية لا يتعارض مع هويتها الوطنية، كما أنه يمكن الجمع بنجاح بين فضيلة الحضارة الإسلامية وعقلانية وتطور الغرب، وهذا يفسر تنامي التقارب نحو السعودية، ولعل مما زاد التقارب السعودي والعربي التركي هو قناعة الإدارة التركية بأن العوامل الدينية والخلفيات التاريخية هي الأكثر حسماً من العوامل الاقتصادية والسياسية في تحديد موقف دول المجموعة الأوروبية من طلب تركيا الحصول على عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي وهذا ما حصل بعد ضم دول مثل قبرص وبلغاريا ورومانيا، ولذا يتضح تأثير البعد الإسلامي في السياسية الخارجية للبلدين وهما يحاولان تقديم نموذجين للإسلام المعتدل، وتعزز التعاون في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي حيث كان انتخاب الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي في يناير 2005، دليلاً جديداً على توجه تركيا الواضح نحو جذورها الإسلامية. تنامي العلاقات الاقتصادية: في أثناء زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز لأنقرة في العام 2006 تم توقيع إتفاقيتين إحداهما حول التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار والأخرى حول تجنب الازدواج الضريبي وزاد حجم التجارة بين البلدين من 3.3 مليار دولار عام 2006م إلى 5.5 مليار دولار عام 2008م، وشهدت السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في حجم الاستثمارات المتبادلة وحجم الاستثمارات المشتركة ووصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو خمسة مليارات دولار في عام 2009، كما يوجد في المملكة أكثر من 125 ألف عامل تركي، وتضاعف عدد السياح السعوديين إلى تركيا عام 2012 بنسبة الضعف ليتجاوز 100 ألف سائح وتجاوز عدد المعتمرين الأتراك في عام 2012، 800 ألف معتمر و80 ألف حاج. وما زالت العلاقات الاقتصادية في تطور مستمر، ومن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري إلى عشرة مليارات دولار خلال السنوات المقبلة .. تعزيز العلاقات العسكرية والأمنية: أسهمت الأحداث الإرهابية التي وقعت في المملكة عام 2003 في حدوث تقارب بين البلدين وخاصة على مستوى التعاون الأمني والاستخباري، حيث توافقت رؤية البلدين تجاه مواجهة الإرهاب الدولي والإقليمي، وظهر ذلك من حجم المشاركة التركية في المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب في الرياض فبراير 2005 كما يتعاون البلدان بشكل فاعل في مجال مكافحة المخدرات. وفي المجال العسكري تتطور العلاقات بشكل فاعل وخاصة فيما يخص الصناعات العسكرية وفي مايو 2010 وقعت إتفاقية في مجال التدريب والعلوم العسكرية. رؤية مستقبلية: تمثل الظروف المحلية في المملكة وتركيا وكذلك الإقليمية والدولية فرصة تاريخية لتحقيق مصالحهما في الظروف الحالية وقيادة العالم الإسلامي في ظل التوافق في الرؤية المستقبلية والأهداف المشتركة للدولتين ووفق المنظور الإستراتيجي لهما فإنها تساعد على تحقيق جزء من حلُم الاستقرار في المنطقة. هناك حاجة ملحة لبناء علاقات ذات أبعاد استراتيجية تخدم المصالح المشتركة لكل من البلدين في بناء علاقات دولية ناجحة؛ ويدعم ذلك تطابق وجهتي النظر بين البلدين في مجمل القضايا على الساحة العربية والإسلامية والدولية، وبخاصة ما يتعلق منها بمكافحة الإرهاب والدعوة لحوار الحضارات واحترام العقيدة وجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل.