وسط أجواء معتدلة تنعم بها منطقة الباحة خلال هذه الأيام من صيف عام 1433ه، كان لأحاديث الفكر والثقافة حيز واسع في تنويع المناخ الاجتماعي واضفاء جماليات العمق الفكري، ذلك ما دار مؤخرا في جنبات النادي الأدبي بالباحة، على ضفاف محاضرة نقدية للأديب والروائي علي الشدوي حول: "مفهوم التحضّر في قرى الجنوب - مدخل نقدي" وذلك بقاعة الأمير محمد بن سعود للمحاضرات بالنادي وقاعة الخنساء للسيدات عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة والتي أدارها نائب رئيس النادي د. عبدالله غريب، حيث استهلها بتقديم العزاء للقيادة وأخوة وأبناء فقيد الوطن سمو الأمير الراحل "محمد بن سعود" أمير منطقة الباحة سابقا الذي وافاه الأجل خارج الوطن ثم أعقب ذلك بتقديم فارس الأمسية والتعريف به من خلال سيرته الذاتيه ومن ثم بدأ المحاضر الأمسية بتوزيع موضوع محاضرته إلى ثلاثة أجزاء شملت تحليل مفهوم التحضر كما يُفهم في القرى الجنوبية تحليلا نقديا وإظهار التشوّه الذي تعرض له. وقال رغم أن مفهوم الحضر يشمل المدن والقرى والأرياف من جهة أنه ضد مفهوم البدو الذي يشمل الصحراء إلا أنه مفهوم غير منضبط في ذهن جيلي، حيث يشمل الحضر المدن فقط في مقابل البدو في القرى والأرياف والصحراء. وأنه ترتّب على هذا أن تحدد مفهوم التحضّر بالتخلق بأخلاق أهل المدن وعاداتهم في مقابل البداوة التي تحددت في التخلّق بأخلاق أهل القرى والأرياف والصحراء. في موروث المنطقة كان مفهوم التحضّر منضبطا في ذهن الجيل الأقدم من جيلنا ليس عند النّخبة منهم إنما عند العامة بتفريقهم بين القرى والصحراء ب "بدو غامد" و "بدو العقيق" مثلا أي الناس غير المستقرين والرّحّل في الصحراء، في مقابل الناس المقيمين والمستقرين في القرى. وطرح عدد من التساؤلات منها: ما العملية التي حرفت مفهوم التحضّر إلى حدِّ أننا نفيناه عنا؟ ما الآفاق التي جاء منها الانحراف إلى حدّ أننا ضممنا القرية إلى الصحراء؟ وخلطنا الناس المستقر ين بالرحّل؟ ثم استحضر تمثيلات الأجيال القليلة التي سبقت جيله عن الحضر التي رأى أنها هي التي مهّدت لعدم انضباط مفهوم التحضّر في ذهن جيله وفي ذهن الجيل الحاضر. مردفا بأنه ارتبطت الأجيال التي سبقت بعلاقة بمدن الحجاز كمكة وجدة حَجّا أو عملا دائما أو عملا موسميا. وقد تشكل في أذهانهم صورا للحضر نتجت عن مخالطتهم. فمثلا احتكام الحضري إلى القانون لكي يأخذ حقه فُهم على أن جبن من أن يأخذ حقه بيده ومشاورة الحضري امرأته ومداراتها والتودّد إليها فُهم على أنه خضوع لمَن لا يجب أن يخضع له الرجل وفرديّة الحضري في كونه يبحث عن مستقبل آمن له ولأبنائه فُهم على أنها خروج عن الجماعة وزيّ الحضريّة المرتبط بأجواء المدينتين الحارة فُهم على أنه انحلال خلقي بموافقة الرجل وحلْق الحضري لحيته وربما شاربه فُهم على أنه نقص في رجولته وعدم انتساب الحضري إلى قبيلة فُهم على أنه ضعف في النسب والحسب واقتصاد الحضري في مأكله ومشربه وضيوفه فُهم على أنه تقْتير وبخل. ثم استهل الجزء الثاني من محاضرته بعدة أمثله منها ما هو خاص ببعض اقاربه ومنها ما هو عام بالمجتمع ربطت بين التحضر وعدمه من العلاقة بين التحضّر وبين السهر من جهة وبين عدم التحضّر والنوم المبكر من جهة أخرى عندما اقتصر سهر الليل في القرى على الممارسات غير المشروعة من قبل الجماعة كلقاء الحبيب أو السهر في التفكير فيه واستشهد ببعض الابيات الشعرية الشعبية التي وجدها في كتب المؤرخ علي بن صالح السلوك وأضاف لم أعثر في موروثات غامد وزهران ما يشير إلى الترهيب من السهر لأسباب دينية إنما لأسباب دنيويّة كما أنني لم أجد ترغيبا في النوم نتج عن توجّه ديني إنما نتج عن توجّه دنيوي ذلك أن الترهيب والترغيب في السهر لسبب ديني والنوم المبكر لتوجه ديني ثقافة طارئة على تفكير المنطقة الثقافي وقارن قرى المنطقة في هذا بالمدينتين الأقرب للباحة هما جدة ومكة في كون السهر بهما ارتبط السهر فيهما بنشاطات اقتصادية كالمقاهي ونشاطات اجتماعية ورمزية كالأفراح والحفلات. واختتم محاضرته بأمثلة لرؤية أحد زائري الباحة من خارجها عندما وجدهم في حفل يرقصون قائلا: هل هؤلاء غضبانين من الأرض التي يرقصون عليها ضربا بأرجلهم بهذه الصورة؟ وأضاف بأن تيارين تجاذبا دعوة يدعو التيار الأول إلى نبذ فنون الجنوب لما فيها من مخالفات شرعيّة ويدعو الثاني إلى هجرها لما فيها من بدائية. وتناسى التيار الأول أن الجنوبيين كانوا يعملون ويحتفلون في الوقت الذي يتعبدون ويتصلون بالله من غير أن يحتاجوا إلى هجر العرضة أو اللعب أو المسحباني وفي ضوء هذا التعايش كانت الثقافة الجنوبية ممارسة وسلوكا أكثر من كونها معرفة تعلم أو تؤدلج ثقافة دينية وعملية واحتفالية وليست علما يتعلمه الجنوبي إنما إطار يتحرك داخله. يعني خجل التيار الثاني من فنون أجدادهم وآبائهم أن كل شيء مما كان أثيرا عند الجنوبي القديم تشوه وأن الطفرة الاقتصادية طمست كل المعالم بما فيها الفنون كالعرضة واللعب والمسحباني وأكّد على الفعل أنه "تشوّه" لكونه يعني عنده أن شكلا منظما من أشكال الحياة الجمالية الجنوبية قد تعرض لتدخل مباشر بنقص أو زيادة أو تبديل مواضع أو تغيير أجزاء وبالتالي أصبح الفن الجنوبي معيبا ومشوها ولا ينتمي إلى الدين ولا إلى التحضّر. واختتم حديثه بقوله ليس من السهل أن أبرر هذا الذي حدث لفنون الجنوب ومع ذلك يمكن أن أتحدث أن ما صنع هذا الفهم الذي يربط بين فنون الجنوب وبين عدم التحضّر أو كونها مخالفات شركية هو عوائق الفهم التي تولد تشويه المفاهيم والممارسات وهي عوائق كثيرة كعدم فهم معنى الكلام أو عدم فهم الأفكار أو تعدد معاني الكلمات أو الجهل بالعادات والتقاليد والطقوس. كما أكد بأن لدى عامة الناس مفهوما خاطئا حول العلمانية والعلمنة إذ يطلقونها على الأشخاص بعينهم فيقولون فلان من الناس (علماني) والصحيح أن العلمانية لا يمكن إلصاقها بالأشخاص وإنما تكون على الدول التي وصلت إلى المفهوم للعلمنة بمعناها الحقيقي لا المتداول بغير فهم. بعد ذلك بدأت مداخلات الحضور التي أثرت اللقاء وأضافت بعض المفاهيم الجديدة لما حمله عنوان المحاضرة كان من بين المداخلين الشاعر محمد الشدوي والدكتور ناصر بن علي الغامدي عضو النادي والدكتور خميس الغامدي والشاعرة عبير الزهراني التي فجرت قضية العنصرية من حيث نظرة سكان السراة لسكان تهامة وسكان تهامة لسكان السواحل القريبين من ساحل البحر الذين يطلق عليهم "سكان الخبوت" التي اعتبرتها نظرة ازدراء وانتقاص لا مبرر له سوى عادات سلبية توارثتها الأجيال تحتاج لدراسات بحثية لتعديل هذه المفاهيم المغلوطة كما تداخل الشاعر غرم الله الصقاعي والشاعر مسفر العدواني عضو النادي. وتلقى الشدوي عددا من الأسئلة من قبل الكاتب شهوان الزهراني والإعلامي عبدالرحمن ابو رياح أجاب عليها وعلق على المداخلات واختتمت الأمسية بكلمة لرئيس النادي الشاعر حسن الزهراني الذي قدم الشكر باسمه واسم مجلس إدارة النادي والمثقفين للمحاضر وشكر الحضور ثم قدم لفارس الأمسية درعا بهذه المناسبة ومجموعة من إصدارات النادي الأخيرة التي وزعت على الحضور أيضا وأعلن بعض مناشط النادي خلال الفترة القادمة.