حشود من البشر في الشوارع والميادين وفي كل مكان يخطر، أو لا يخطر على البال. حشود تنطلق من مناطق وتجوب مناطق، ربما استحال على أي شخص فيما مضى، ومهما كانت درجة تفاؤله، أن يحلم بها؛ أحياء توصف بأنها راقية، وأخرى بأنها شعبية، وثالثة بكونها شديدة الفقر والاحتياج. يتساوى الكل أمام رغبة التعبير عن الذات. منذ سنوات مضت، ومن خلال ممارسة العمل الحقوقي مع فريق مركز النديم، كنا كثيرا ما نتحدث عن حشد كتلة مؤثرة من الناس، كي نعطي دفعة لبعض مطالبنا، وأغلبها قضايا ومواضيع تتعلق بجريمة التعذيب؛ كالضغط من أجل محاسبة بعض الجناة مثلا، أو كمحاولة من محاولات رتق الثقوب القانونية التي تبيح إفلات الجلاد. كانت القضايا في بعض الأحيان أكثر سخونة وإلحاحا، ربما كالمجاهدة من أجل إطلاق سراح مجنى عليه من غرفة احتجاز مغلقة، يكابد فيها صنوف الإهانة والانتهاك التي لا قِبَل لإنسان بتحملها. في كل مرة قررنا «الحشد»، ظهر العدد قليلا، يصعب إطلاق لفظة «حشد» عليه. وفي كل مرة دعونا للحشد، جاء الوضع النهائي مُخَيبا للآمال. عن نفسي، صرت بمرور الوقت أتحاشى الكلمة كلما كان الأمر جادا، لفرط ما ارتبطت في ذهني بمجموعة صغيرة من الأفراد، ربما لا تتعدى في بعض الأحيان أصابع اليدين. مجموعة لا تتناسب مطلقا وحجم الأزمة أو فداحة الجرم الذي يُفتَرَض أن تواجهه. بعد حين، أصبحت كلمة «حشد» في قاموسي الخاص وفي قاموس بعض الزملاء أيضا، أداة من أدوات المزاح والسخرية وأحيانا جلد الذات، رمزا للعجز عن الوصول إلى الناس العادية، التي لا تعمل بالسياسة ولا بالمنظمات والجمعيات وغيرها من كيانات المجتمع المدني، ودفعها إلى التحرك والمشاركة. يرى اللغويون أن الحشد هو جمع، مُتَّجِه في أغلب الاحوال ناحية هدف واحد، والكلمة تحمل بالإضافة إلى ذلك إيحاء بالتعاون للوصول إلى هذا الهدف وتحقيقه، ويقال إن أكبر الحشود والتجمعات البشرية التي تتكرر بصفة دورية منتظمة على مستوى العالم، هي تلك المتجهة إلى المملكة العربية السعودية لأداء طقس الحج كل عام، إذ تتراوح ما بين اثنين وثلاثة ملايين شخص وربما تزيد على ذلك قليلا، وقد أغرت العملية التنظيمية لهذا العدد الهائل بعض الباحثين الغربيين بدراستها. ربما تكون جنازة الزعيم الكوري الشمالي كيم يونج آيل من أغرب التجمعات المليونية التي جرت في نهاية عام 2011 . يمكن تقسيم الحشود الغفيرة التي شهدتها مصر في العقود الماضية إلى نوعين متباينين؛ أولهما حشود الوداع، التي خرجت حزينة في جنازات شخصيات محبوبة وقريبة من الوجدان الشعبي . النوع الثاني، يتمثل في تلك الحشود المتوحدة على الغضب والمحتجة ضد السلطة، وقد شهدها عهد السادات في يناير عام 1977، حيث خرجت صارخة قرارات ضد رفع الأسعار، ولم تهدأ حتى تم الرجوع عنها. مع الأسف، توقف هذا النوع من الحشود في عهد مبارك، وخلت الساحة تماما إلا من استثنائين اثنين فقط خلال الثلاثين عاما، إلى أن جاءت بشائر عام 2011، حيث عادت الروح الجماعية الثائرة أخيرا، بحلول الخامس والعشرين من يناير، ولم تتوقف الحشود منذ ذاك الوقت؛ غاضبة وثائرة تارة، مُحتَفِلَة تارة، ومتجهة إلى صناديق الاقتراع تارة أخرى. النوع الأخير؛ وهو الحشود «التصويتية» إن جازت التسمية، لم يظهر أبدا فيما أعتقد على مدار ستين عاما كاملة، هي عمر مصر الجمهورية، الديمقراطية بين قوسين، وهو أمر مدهش يدعو، بغض النظر عن النتائج المرحلية، إلى كثير من التفاؤل، فالناس تحركت واحتشدت من تلقاء نفسها، وراحت تستميت في الدفاع عن حقها وصوتها، مستعيدة الثقة في قدرتها على التغيير والاختيار. تغير سريع ساحق، أثار حنق البعض، لكنه جعل آخرين يتقافزون فرحا. للمرة الأولى منذ وعيت كلمة «الحشد»، أذكرها دون أن أعقبها بضحكة ساخرة، ودون أن أسمع بعدها تهكم الصديقات والأصدقاء، صار للكلمة في أذنيّ وقعٌ جديدٌ رائعٌ.