لحى كثيفة تخلو تماماً من آثار اللون الأبيض! جلابيب ملاصقة للأرض وشفاه باسمة تحلم بغد طال انتظاره وعيون شابة تنظر خلف فتحات النقاب الأسود ملوحة بأعلام خضر وبيض في ميدان التحرير الواقع في قلب جمهورية مصر العربية. إحياء ذكرى الثورة المصرية كشف الستار عن بزوغ نجم مصري من نوع آخر. هو نوع يختلف عن ذلك الذي أشعل ثورة الميدان قبل عام، وهو نوع يختلف عن ذلك الذي أطلق عليه «عفاريت الإنترنت» أو «ناشطو الفايسبوك» أو «الثوار الشرفاء». فعلى مدى عام كامل ظن العالم ومعه كثيرون من المصريين أن الشباب المصري هو ذاك الذي نزل إلى الميدان في كانون الثاني (يناير) 2011 وظل هناك 18 يوماً إلى أن أسقط النظام، ثم داوم على الاعتصام والتظاهر مراراً وتكراراً للتذكير بالمطالب والتنديد بالانتهاكات. وفي إطار الاحتفال بمرور عام على ثورة يناير، غزت ميدان التحرير جيوش من المحتفلين والمحتفلات من المنتمين الى التيارات الدينية التي ضمنت لنفسها الغالبية البرلمانية ومن ثم اليد العليا على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في مصر. أغلب الظن أن قلة قليلة فقط من وسائل الإعلام المصرية والعربية والأجنبية ركزت على تلك الفئة من الشباب، وهي الفئة التي لم تكن تجرؤ على المجاهرة باحتفالاتها من قبل. وهي أيضاً الفئة التي كانت ربما تفضل إخفاء انتماءاتها خوفاً من بطش الأمن! «اليوم من أجمل أيام حياتي! سبحان الله! قبل عامين منعني الأمن من دخول لجنة الامتحان إلا بعد أن أزيل النقاب عن وجهي! اليوم أخواتنا المنقبات ومرتديات الخمار هن اللواتي يؤمن دخول الميدان للاحتفال». الشابة المنقبة التي جلست وسط زميلاتها على أرض ميدان التحرير احتفالاً بمرور عام على ثورة، جعلت النقاب والخمار عنواناً للفتاة المصرية «اللائقة» ودليلاً على تحول سياسي كبير وضع التيارات الليبرالية ومعها المصريات غير المحجبات أو حتى المحجبات حجاباً عصرياً في خانة الدفاع عن النفس. ويبدو أن تلك الخانة تتسع لكثيرين! فالرسالة التي تدافع آلاف الشباب الملتحين لإيصالها يوم الأربعاء الماضي إلى أقرانهم من أصحاب الأصوات العالية والوجوه المعروفة إعلامياً وشعبياً باتت واضحة. يقول محمد السيد (22 عاماً) الذي جاء من المنوفية في أحد الباصات التي شحنت آلاف الإسلاميين من ربوع مختلفة للاحتشاد في الميدان: «هذا الذي يصرخ على الجانب الآخر مطالباً بتسليم السلطة إلى البرلمان يتحدث باسم من؟ باسم هؤلاء أم باسم من يقفون حوله؟ ثم من خوله الحديث باسم الشعب؟ هل هو الشعب الذي أعطى الإسلاميين أكثر من 70 في المئة من أصواته في الانتخابات أم هو الشعب الملتف حوله؟». أناشيد الإخوان بدل أغاني الثورة «الشعب» الملتف حول الشاب الواقف على المنصة التي يشير إليها فتحي هو جمهور «6 أبريل»، وما يقصده فتحي من سؤاله كان واضحاً. فعدد الملتفين حول شاب «6 أبريل» شحيح للغاية مقارنة بالمحتفلين الإسلاميين. ميدان التحرير لم يعد للمحتفلين فقط. بل بات يحوي صغار التجار من الشباب أيضاً... حتى إن أحدهم وقف يبيع أعلاماً وشارات وقبعات تحمل اللون الأخضر. ولأن رفع الأعلام غير المصرية في الميدان طوال العام الماضي أثار الكثير من الاستهجان، توجه الشاب إلى بائع الأعلام بسؤال مستنكر: «أي أعلام هذه؟» فأجاب بدفاع عن النفس: «هذه والله أعلام مصرية صميمة»! لكن الأعلام المصرية الصميمة التي يبيعها ليست سوى أعلام وشارات وقبعات تحمل شعارات «الإخوان المسلمين». أما لماذا تقتصر تجارته على شارات الإخوان، فيقول: «أنا من شباب الجماعة، والجماعة تتمتع بالمقدار الأكبر من الشعبية في الشارع المصري حالياً، وبالتالي، ومن وجهة نظر تجارية تحسب الربح والخسارة وتدرس حاجات السوق، يتبين أن الأعلام الأكثر مبيعاً هي المتصلة بالإخوان». وبنظرة ماكرة يضيف: «والله حين ينجح فصيل آخر أو تيار مخالف في الحصول على النسبة الكبرى من التأييد الشعبي، قد أفكر بطبع شعاراته أو أعلامه لبيعها». وإذا كان خبراء الموضة يؤكدون دائماً أن سيدي الألوان هما الأبيض والأسود، فقد ظهر هذا جلياً في الميدان. شابات التيار السلفي جئن بنقابهن الأسود رافعات أعلام «حزب النور» البيض ليندمج اللونان مع طيف الألوان الوقورة التي ترتديها شابات جماعة الإخوان. وبدلاً من أغنيات الثورة التي غزت الميدان طوال عام مضى، من «يا بلادي» و «إزاي» و «كنت فاكرة» وغيرها، بات الميدان يستمع اليوم لأهازيج الإخوان الدينية وتكبيراتهم وذلك على خلفية نشيد حزب النور «يا مصر صباحك نور» التي يرددها شباب الحزب وليس شاباته بالطبع لأن صوت المرأة يبقى عورة! وعلى رغم بعض محاولات الشباب الإسلاميين الساطع نجمهم حديثاً لتقريب وجهات النظر أو ربما لدرء المخاوف التي يتم الترويج لها مثل فرض النقاب وتجريم حلق اللحى، يبقى أن الفجوة بين التيارين الثوري الليبرالي الذي يعتبر نفسه الأحق بالميدان وذلك الديني الملتحي الذي يغزوه (أي الميدان) عملياً، تتسع كل يوم. وتدعو صفحة شباب حزب النور على «فايسبوك» مثلاً بقية الشباب للتواصل معهم، والاستماع إليهم بدلاً من السمع عنهم. ومجموعة «سَلَفيو كوستا» التي تأسست كنوع من الرد الساخر الخفيف الظل على الاتهامات التي توجه إليهم، وتنمطهم على أساس المظهر محاولات جيدة وإيجابية، لكنها تظل نقطة في بحر الفجوة الآخذة في الاتساع.