ليس بدعا القول بأن مشهدنا التربوي، بالرغم مما أحرزه من تطور ملموس في تخطيط وإعداد المناهج والبرامج الدراسية،وإدماج مستجدات المعرفة الانسانية، إلا أنه بات قاب قوسين أو أدنى من عتبة الإفلاس الأخلاقي والقيمي. ومرد ذلك بالاساس الى تضافر عاملين اثنين: اولا هيمنة النزعة التقنية على التعليم منذ مطلع الثمانينات بفعل الوثوق المطلق بالعقل والانبهاربالانجازات الكبيرة التي حققها العلم المعتمد على الطريقة التجريبية. فانبنت التربية على تشكيل السلوكات وتلقين المعارف والمهارات المرتبطة بالعالم المادي وخبراته. ثانيا التحولات البنيوية الكبرى التي شهدها العالم على كافة الأصعدة،وانعكاسها السلبي على الهوية ومنظومة القيم العربيةو الاسلامية،حيث تشكلت جبهة تغريبية سعت جاهدة إلى قطع الشريان الممتد بين السلف والخلف، والانحشار الكامل في معطف الغرب لتحقيق الرقي المنشود! فلقد تنامي في المجتمعات العربية الظواهر السلبية الخطيرة التي حالت دون تحقق المنتظرات التربوية، وأهدرت الأموال والجهود في علاج اختلالات سلوكية ونفسية ناجمة عن استهلاك المنتوج المستورد! وفي مقدمتها: العنف المدرسي،و الانحلال الخلقي، والتفكك الأسري.. فلم يكن بد من الاعتراف بقصور المناهج الحالية،والدعوة للاهتمام مجددا بالبعد الاخلاقي وإدماج ما اصبح يعرف ب"التربية على القيم". بيد أن جملة من التساؤلات تفرض نفسها في ظل صحوة الضمير هاته التي تشهدها المنظومة التربوية،وتهم بالاساس آليات تفعيل البعد الأخلاقي داخل مجتمع المدرسة، وطبيعة القيم المراد تلقينها وحمل المتعلم على التحلي بها، ومدى استعداد الفاعل التربوي المسؤول عن أجرأة المنهاج الدراسي للانخراط في هذه المبادرة التصحيحية! ان اعتماد التربية الأخلاقية او "التربية على القيم" كمرتكز ثابت في الإصلاحات التربوية الجارية يحتم أولا تحديد مرجعية المنظومة الأخلاقية المراد تمريرها، هل هي مرجعيةإسلامية صرفة، أم مستحضر هجين يتداخل فيه الديني مع الفلسفي والحقوقي،ويتحكم في دواليبه السياسي والايديولوجي ؟! فالدعوة الى إكساب قيم كالتسامح والانفتاح على الآخر والحق في الاختلاف هي دعوة يلفها الغموض واللبس في ظل تناسل بؤر التوتر على امتداد العالم العربي والاسلامي " فلسطين، أفغانستان، السودان، الصومال،العراق..." وتنامي الوعي بأشكال الغزو الفكري والثقافي،والرفض المتزايد لمظاهر الكراهية والغطرسة التي يسم بها الغرب سياسته ومواقفه تجاه كل ما هو عربي وإسلامي. كما أن إقبال المتعلمين على الوسائط المعرفية الجديدة التي أفرزتها الثورة التكنولوجية، وما رافقها من تحرر نسبي لوسائل الإعلام يثير الشك حول جدوى هذه القيم، ويحد من فاعليتها في التأثير على سلوك ومواقف المتعلمين!. أما الشرط الثاني فيتمثل في استلهام الاسلوب الأمثل لتمرير الرصيد الأخلاقي،وهو ما يقتضي رصد ا أوليا للاتجاهات المتعددة التي عنت بتلقين القيم،و يمكن حصرها إجمالا في خمس اتجاهات بناء على آراء عدد من فلاسفة التربية بشأن الاخلاق،ثم السعي إلى الملاءمة بين هذه الاتجاهات وتفادي الانتقائية!،لأن مفهوم الأخلاق، خصوصا الإسلامية، هومفهوم واسع وشامل يتجاوز ما جاءت به كل الأديان والفلسفات، إذ تندرج في إطاره حتى علاقة الإنسان بغيره من الكائنات الأخرى! أما الشرط الثالث فيتمثل في تأهيل الفاعل التربوي وتمكينه من الأدوات اللازمة لأجرأة هذا المدخل. فمن المسلم به أن أدوار المدرس عرفت تراجعا هاما منذ تبني النزعة التقنية في التعليم،إذ انحصر دوره في تنفيذ المقررات الرسمية،والالتزام بجدول مهام محدد سلفا، فتراجع حضوره الرمزي ودوره الآكد في غرس القيم،و التنشئة العاطفية،وتمكين المتعلم من تمثل "القدوة الحسنة". وهوما يتطلب تمكين المدرس من هامش أوسع في التصرف، وحفزه على المبادرة وتبني أساليب مبدعة في التواصل مع المتعلمين، إضافة إلى صيانة كرامته ونبل رسالته من العبث الإعلامي! إن الخروج من الأزمة الأخلاقية التي تعيشها منظومتنا التربوية في العالم العربي لن يتأتى من خلال استيراد قيم مقطوعة الصلة بالاسلام وحضارته وثقافته،ولن يتحقق كذلك بتبني الصيغ الخطابية والوعظية، وانما بالرصد الواعي لمكامن الخلل، واستلهام الرؤية التصحيحية من رصيد الأمة الديني والأخلاقي، وهوما يتطلب جرأة في القطع مع القيم المستوردة!!