ليس هناك مكانٌ يكون فيه العدل أعظم منه حين يكون مع المخالف، هذه المرتبة الأخلاقية النبيلة لا يمكن توافرها في المجتمعات السطحية المحتقنة بجهلها وسوء ظنّها، ففي هذه المجتمعات السطحية تكون الذاكرة قصيرةً وتكون الأحكام وليدة اللحظة الانفعالية وأقرب لاحتجاج الأطفال منها إلى رأي العقلاء، ولذلك نجد ردات فعل متباينة أشد التباين رغم أنّ المسبب لها واحد، فهذا الظلم الذي يتزيّا بالإنكار والذود عن حياض الدين حينما يكون المتهم ممن نختلف معهم ونتمايز عنهم، هو نفس الظلم الذي يتزيّا بالرفق والنصيحة وعدم إعانة الشيطان على أخينا حينما يكون المتهم ممن نتفق معهم ونتماثل وأيّاهم، هذا التباين المخجل في ردات فعل كل فريقٍ من المجتمع بناءً على تصنيف من قام بالفعل ومدى مشابهته أو مخالفته لكل فريق هو الدليل الذي نستطيع أن نثق به ونستند عليه حينما نشكك في صدق دعاوى الإنكار والغضب والغيرة أو الرحمة والنصيحة، فالحقيقة أنّ الأحكام الأخلاقية الصائبة كالعدل والرحمة لا يمكن أن يتم تطبيقها بشكلٍ انتقائي فهي حقٌ للجميع وواجبٌ على الجميع، ليس لأحدٍ أن يمنعها عن أحد وليس لفريق أن يدّعي استحقاقها أكثر من غيره، ونستطيع أن نرى في مجتمعنا التطبيق المنحدر لهذا الأساس الأخلاقي الرفيع حيث لم تعد القيم الصوابية المطلقة سبباً لازماً بحد ذاتها تستحق المنح للجميع بل أصبحت منحةً يرغب كل طرفٍ أن يستأثر بها ويلبسها أهله ومشايعيه، حتى أصبح العدل مع المخالف من أشقّ الدروب وأجلبها للتشكيك والأسئلة اللئيمة، وأصبح الهدف من كلمة الصدق والعدل هو الأصطفاف والتخندق والانتصار للنفس وللمجموع ولم تعد الحقيقة هي المراد كما هو الواجب المفترض دائماً وأبداً. ولعل من أوضح المظاهر التي تمثّل فيها هذا الجور الأخلاقي في التعامل بين أطياف المجتمع وفئاته هي قصة حمزة كاشغري حينما كتب بعض التغريدات الخاطئة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في يوم المولد النبوي في القصة المعروفة وقصة محمد العريفي في معرض حديثه عن نجاسة الخمر حينما تحدث ببعض العبارات غير اللأئقة عن تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع الخمر وكيف كان يبيعها أو يهديها! وليس الهدف من هذا المقال هو الرد على هذه العبارات والأخطاء فهذه الكلمات الخاطئة التي صدرت منهما لا تمنحنا الحق الأخلاقي في الحكم عليهما أو المزايدة عليهما، ولكن الهدف هنا هو المقارنة بين ردات الفعل المختلفة على كاشغري والعريفي من أطياف المجتمع المختلفة رغم تماثل السبب!! ففي قصة كاشغري هبّ أنصار الخطاب الديني للهجوم عليه والمطالبة بمحاكمته والقصاص منه بل طالب أحد كبار الصحويين بتطبيق حد الردة على كاشغري!! وكما رأينا صدرت بيانات الشتائم والتهديد وتم توظيف كاشغري في معركة التيارات وبلغت نغمة الاستعداء والتحريض والشتم أعلى مستويات النشاز والظلم، وقام أنصار الخطاب الليبرالي بالدفاع عن كاشغري بشكلٍ ساذج يلوك مصطلحاتٍ صحيحة في غير سياقها، فسمعنا عبارات من قبيل حرية التعبير والخيال الشعري وغيرها، وحصل الاصطفاف والتخندق المعتاد وكانت الفئة القليلة التي حجب الصراخ حديثها تقول إنّ كاشغري أخطأ وتاب وأنّ علينا أن نتوقف عن التحريض أو التبرئة وأن ندرس سبب المشكلة ونعالج جذروها كما ينبغي أن لا نستعدي الناس على بعضهم، حدث ذلك منذ أشهر كما يعلم الجميع وكاد النسيان يطوي هذه الحكاية حتى جاء محمد العريفي بعباراته عن الخمر وتعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معها فبدأت القصة من جديد ولكن هذه المرة تحوّل من كان مهاجماً بالأمس يذب عن حياض الدين إلى موقع الدفاع اليوم عن العريفي بينما تحوّل المدافعون عن حرية التعبير إلى المطالبين بقمعها ومحاكمة العريفي، هذا التحول الذي يشير بمنتهى الوضوح إلى مستوى العري الأخلاقي في أحكام هذا المجتمع وطريقة تقييمه للأمور. هو الشمس التي أذابت زيف الدعاوي والحجج، فقد حصل الاصطفاف والتخندق في قصة العريفي وشمت البعض به وذهب بمعاني كلماته إلى ما لا تحتمله من قبيح المآلات، كما تمحك له فريق المدافعين عنه وجاء بتبريراتٍ من سقيم القول ووهن المنطق لا تسمن ولا تغني، ومرةً أخرى قالت الفئة القليلة العاقلة أنّ العريفي أخطأ وتاب وأنّ علينا أن نتوقف عن التحريض اللئيم والتبرئة الساذجة ومرةً أخرى - للأسف الشديد- غاب صوت هذه القلة العاقلة في ضجيج الغوغاء وتخندقات الأتباع.وقد قلت في مقالة سابقة عن موضوع تغريدات كاشغري أنّه يجب علينا منح الرحمة والتفهم وحسن الظنّ للجميع ليس لأنّ ذلك هو الصواب الأخلاقي وحسب، وإنّما لأنّنا سوف نحتاج إلى وجود من يمنحننا الرحمة والتفهم وحسن الظنّ في يومٍ ما، وهذه القصة التي تبدلت فيها المواقع وتغيرت زاوية الرؤية والحكم تغيراً كاملاً هي أوضح الأمثلة على ذلك.ولذلك ربما حان الوقت أن نتواضع قليلاً وأن نشعر بوجوب حاجتنا للرحمة منحاً واستحقاقاً ووجوب حرصنا على العدل وتمامه وشموله للجميع بغض النظر عن الخلافات والتباينات، وعلينا أن نخجل حينما ندافع اليوم بضراوةٍ عما كنّا نهاجمه في الأمس بشراسةٍ لمجرد تماثلنا أو تبايننا مع من قام به. تقول هذا مجاج النحل تمدحه و إن تشأ قلتَ ذا قيء الزنابيرِ ذماً و مدحاً و ما جاوزتَ وصفهما و الحق قد يعتريه سوء تعبيرِ Twitter: @knfalamri facebook.com/knfalamr