السخرية لغة من درجة ثانية، لغة مقنّعة إذا صحت التسمية، و هذا أهم ما يميزها، و أبرز ما يمنحها قوتها كوسيلة احتجاج و تعبير عن رأي، السخرية لغة ساحرة رمادية، مرارة مغلفة بالضحك، و الكثير الكثير من السخط الذي لا يُعبَر عنه بشكل مباشر، و لكن بالتفافة تفرضها غالباً أجواء الاستبداد، و مناخ اعتقال حرية الكلمة .. لهذا تتناسب السخرية و فن صناعة النكتة طردياً مع الكبت، المجتمعات المكبوتة مجتمعات تجيد صناعة النكتة باحتراف، لأنها تشعر أنها تعيش أصلاً في نكتة كبيرة .. لهذا ما المانع من صنع نكات أخرى صغيرة داخل هذه النكتة الكبيرة ! كل شيء قابل في هذه المجتمعات - حتى أكثر الأحداث بؤساً ووجعاً - إلى التحول إلى نكتة في ظرف ثوانٍ فقط ، المجتمعات التي استنزفت طاقتها في البكاء لن تستمر فيه إلى الأبد، و ستحول مآسيها إلى فرصة للضحك .. ليس غريباً في هذه المجتمعات أن يكون نجوم الستاند آب الكوميدي والبرامج الساخرة من أبرز من ينتقد الأوضاع الداخلية، بل إن الأصل أن يكونوا هم في الطليعة، لأنهم كما أسلفت في أول المقال يمارسون لغة من درجة ثانية، في ظل أن أصحاب اللغة ذات الدرجة الأولى - اللغة المباشرة أقصد - لا يستطيعون أن يعبروا عن آرائهم و انتقاداتهم بحرية ..