نحتاج إلى قراءة جديدة لكل ميراث الأنظمة الراديكالية، التي تحوّلت إلى جمهوريات وراثية، لنفهم متى وكيف زُرعت بذور القمع الدموي في الحقل السياسي على يد قوميين ويساريين وعدوا شعوبهم بالحرية، ثم استعبدوها. كم مرّة اقتحموا حمص وحماة ودرعا وجسر الشغور والرستن والبوكمال، واللاذقية وإدلب على مدار ستة أشهر مما تعدون؟.لم أعد أذكر، فلم يعد العدُ ضرورياً للخروج بخلاصة مفادها أن القوات الموالية للنظام في دمشق قليلة العدد، وأن عماد هذه القوات الفرقة الرابعة، التي يقودها شقيق الرئيس، وأجهزة المخابرات. وفي سياق كهذا لا يبدو من قبيل المجازفة القول إن القسم الأكبر من الجيش السوري المحترف يكاد يكون قيد الإقامة الجبرية في المعسكرات، بما في ذلك الدروع والمدفعية والطيران، خوفاً من انقسام الجيش وانقلاب الضباط من الرتب المتوسطة والدنيا على قادتهم، وبالتالي على النظام. فالعاصمة تكون محمية بقوات موالية، يقودها في الغالب أقارب الرئيس (الحرس الجمهوري)، أما الوحدات العسكرية خارج العاصمة فلا تستطيع التحرّك دون إجراءات معقدة، وتصاريح مُسبقة من أعلى الجهات الأمنية.وبقدر ما تتجلى الصورة الاجتماعية الطبقية والجهوية والطائفية (إذا شئت) للمجتمعات في جيوشها، فإذا وقع الانقسام في صفوف الجيش السوري سيقع استناداً إلى خصوصية المجتمع السوري نفسه. ومن الواضح أن هذه الخصوصية، وبالنظر إلى المناطق التي تشتعل فيها الثورة، لا تصب في مصلحة النظام. تفسِّر خلاصة كهذه السياسة الانتحارية للنظام، فهو لا يملك ما يكفي من الوقت، والموارد البشرية والمادية لشن حرب طويلة الأمد على المناطق التي تتقد فيها جذوة الثورة، لذلك يستخدم أقصى ما يستطيع من القوّة والبطش، ويمارس القتل بطريقة تحرج حتى الحلفاء في الداخل والخارج. على مستوى التحالفات الداخلية، من المنطقي الاعتراف بحقيقة أن النظام يستند إلى رافعة اجتماعية واقتصادية، ما تزال ملموسة في دمشق وحلب، إلى جانب قاعدته الاجتماعية والاقتصادية ، لكن العنف، بلا خارطة للطريق، يسهم في تآكل وزعزعة هذا النوع من الروافع الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا ما يفسر اتساع بؤر الثورة في ريف دمشق.وربما نعثر على مسألة إضافية، تفسِّر استخدام النظام لأقصى ما يستطيع من القوّة والبطش، إذا ما نظرنا بجدية إلى حقيقة أن النظام غير قابل للإصلاح.، كما أن الحزب لا يستطيع التضحية بالرئيس للبقاء مهيمناً على المجتمع والدولة. لذلك، يخوضان معاً معركة البقاء والمصير. خلاصة كهذه تبرر القول إن ثمة الكثير من أوجه الشبه بين النظامين الليبي والسوري وإذا كان ثمة من فرق، فإن الفرق الوحيد في الدرجة لا في النوع. وهذا ما يختزله شعار اخترعه أنصار العقيد، وأعاد أنصار الرئيس بشار . ففي ليبيا رفعوا شعار "الله، ومعمّر، وليبيا وبس"، وفي سورية رفعوا الشعار نفسه مع تحوير طفيف ليصبح: "الله، سورية، بشّار وبس".وقد تمت في الحالتين شخصنة واختزال النظام في صورة الحاكم، ففي ليبيا، كما في سورية، لا يستطيع الحاكم التدليل على أمر من نوع انه الحاكم بأمر الله، وسورية، كما ليبيا، اسم مجرّد يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. ومع هذا، وقبله، وفوقه، وبعده، في صياغة شعار من هذا النوع، وبهذه الطريقة نلاحظ هيمنة اللاهوت على السياسة في حضور مُطلق، وإضافة اثنين يُراد إدراجهما في باب المُطلق، لذا كانت النتائج مُرعبة. وها نحن نرى النتائج في تجلياتها العربية، يومياً، في نشرة الأخبار المسائية، عندما نحصي عدد القتلى. دفع الليبيون 50 ألف ضحية، فكم سيدفع السوريون؟ نحتاج، بالتأكيد، إلى قراءة جديدة لكل ميراث الأنظمة الراديكالية، التي تحوّلت إلى جمهوريات وراثية، لنفهم متى وكيف زُرعت بذور القمع الدموي في الحقل السياسي على يد قوميين ويساريين وعدوا شعوبهم بالحرية، ثم استعبدوها، وهذا على أية حال موضوع آخر.