في ذروة الاحتفاء القومي باللغة العربية، نتناسى الأمكنة والزوايا التي تتعرض فيها هذه اللغة للتدمير الشامل، وهي على التوالي قوائم المطاعم وهوامش الفضائيات العشوائية والطريقة التي يتبادل بها الناس رسائلهم عبر الهواتف النقالة. إن ما يمكن أن نتهجاه ولا نقرأه على الإطلاق في شريط الفضائية العشوائية ليس عربياً وليس من أية لغة أخرى حتى لو كانت سنسكريتية. وهكذا تحولت اللغة الى أشباه جمل، وخبر ضال يبحث المبتدأ وبالتالي نحن أمام شيفرة تحتاج الى تفكيك، ورغم استبعادنا الاحترازي لمفهوم المؤامرة كي لا نوصف بأننا من ضحاياها، إلا أن هذا التدمير للغة الخالدة ليس مجرد مصادفة، حتى الترجمات الفورية أو تلك التجارية التي تصاحب أفلاماً أو مسلسلات تلعب دوراً في تشويه اللغة، بحيث تصبح أشبه بما سماه الكاتب المسرحي يوجين يونسكو “المغنية الصلعاء” وهو تعبير ساخر عن اللغة عندما تتحول الى وسيلة لتعميق سوء التفاهم بين البشر. ومن يتابع عدد اللغات التي تتعرض للانقراض قد يفاجأ بأن آلافاً منها في الطريق الى الزوال، لهذا فإن الفرنسيين رغم أن لغتهم تمتد كامبراطورية حسب وصف شهير لغايتان بيكون وينضوي تحتها أكثر من خمسين لساناً في العالم بدأوا يستشعرون الخطر ويعقدون المؤتمرات والندوات دفاعاً عن حق لغتهم في البقاء، والأخطار التي تحيق باللغة العربية هي أضعاف تلك التي يرى الفرنسيون أنها تحيط بلغتهم، لأن تدمير الأبجدية يأتي هذه المرة من الداخل ومن عرب يرطنون بها، ويزعم بعضهم ممن وقعوا في فخ الاستلاب أنها لم تعد تقوى على التعبير عن العصر! بالرغم من أن أصحاب اللغات الأخرى ومنهم من يعدون سادة تعبير فيها من طراز جاك بيرك وصفوا الأبجدية بأنها اللغة الوحيدة في العالم الممهورة برسالة انطولوجية أو كونية. وقبل عشرة أعوام فقط ظهرت دعوات شبه استشراقية من داخل الوطن العربي تطالب بحذف حركات الإعراب، وظهرت أخرى تطالب باستبدال النقاط بالأرقام وكأن الأمر لا يتجاوز الرغبة في تدمير الذات والانتحار القومي من خلال قتل اللغة. ولا ندري كيف وصل الشعور بالضآلة الى اللسان بعد أن عشش في الدماغ والقلب؟ وصار العربي يخجل من أبهى وأعز ما أنتج تاريخه الحضاري وهو اللغة.إن الاحتفاء باللغة لا يعني شيئاً إذا عزل عن وسائل صيانتها، وإعادة الاعتبار إليها من خلال العودة الى المرجعيات والجذور لا بمعنى المحافظة أو الاتباع، بل بهدف التأصيل، وإطلاق الممكنات التي تزخر بها العربية، فهي قادرة على التطور والاستيعاب شرط أن نعثر على المفاتيح المناسبة لذلك. ولولا خشيتنا من التورط بإشاعة الفجاجة والأخطاء، لنقلنا عيّنات من الهوامش التي تقدمها الفضائيات العشوائية وقوائم المطاعم والأندية، والترجمات السريعة الأشبه بالجانكي فود. حرام علينا ما نلحقه بأمّنا والأداة المؤتمنة على نقل حمولة موروثنا، فاللغة كما قال سارتر تفكر لنا أحياناً، لهذا فهي جذر الهوية بأعمق المعاني الوجودية. الخليج الاماراتية