لو أردت ان تلمس التغيرات الاجتماعية التي برزت على الساحة الجزائرية تكفيك جولة سريعة في بعض شوارع كبريات المدن، ولعلك تضحك أكثر وقد تتمرغ من الضحك وأنت تتجول في شوارع العاصمة السياسية للبلاد، الجزائر العاصمة، جزائر بني مزغنة، وتلقي بنظرك إلى عشرات اللافتات والمساحات الإعلانية الخاصة التي تتزين بها واجهات المحلات وأعلى مداخل المساحات التجارية، فهناك تثأر اللغة العربية من غريمتها الفرنسية شر ثأر، وتمرغ أنفها في وحل الجهل، وتلوي حروفها مثلما يلوى عنق الدجاج وكأني بها تنتقم من سطوة لغة مارست الإقصاء عليها فوق أرضها وبين أهلها ومسخت ملامح وجهها المشرق لأزيد من قرن ونصف بأيدي "كتبة" جهلاء لا هم أتقنوا كتابة لغتهم الأم ولا فقهوا أبجديات "ضرّتها"، أما أنت فلا تجد أمامك من حيلة لفهم ما هو مكتوب أعلى مدخل المحلات إلا بعدما تبذل جهدا في فكّ رموز الكلمات العرجاء والعبارات الهجينة التي تسيطر على فضاءات ما يسمى في الجزائر ب "التبزنيس" أي النشطات التجارية الصغيرة . وباستثناء اللافتات التي تعلو مقار الوزارات السيادية والأحزاب السياسية أو فنادق الخمسة نجوم وقاعات الحفلات والمسارح والسينما التابعة للدولة، أو الإشارات التي تحيلك على مقار التمثيليات الدبلوماسية أو تلك التي تعلو مداخل المؤسسات الإعلامية والصحفية، حيث تسترجع هناك اللغة الفرنسية كل "صرامتها" وكل رونقها اللغوي، بل تسترجع كرامتها التي "تهان" خارج هذه الفضاءات، ف "المجزرة" التي تطال اللغة الفرنسية، على حد تعبير الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي تحدث ذات يوم عما اسماه "المجزرة" التي مارستها فرنسا الاستعمارية على اللغة والثقافة الجزائرية، لا تعادلها في البشاعة تلك التي تطال اللغة العربية نفسها في الجزائر بالأخص في اللافتات التي تعلو محلات الفاست فود ومطاعم "النجوم الباهتة" ومداخل الحظائر العشوائية، مجزرة لغوية تدحض ما تتداوله الألسنة خارج البلاد من أن الفرنسية سيدة لغة التخاطب في الجزائر، داخل البيت وفي الشارع وفي العمل وفي الأسواق وفي المدارس والجامعات وعلى متن الطائرات والباخرات وفي أعلى هرم السلطة ودوائر القرار، وتحيلنا على جهل العامة من أهل البلاد باللغة الفرنسية كتابة ونطقا . ولعل المضحك في الأمر كله أن حالة المسخ التي تطال اللغة الفرنسية أعلى مداخل المحلات التجارية وفي لافتات المطاعم الشعبية والأكلات السريعة مثل البيتزا ممن يجتهد أصحابها في تحرير مضمونها اتقاء لهيب اسعار خدمات أهل الحرفة أي الخطاطين التقليدين أو أولئك الذين يستخدمون إمكانات العصر التكنولوجية والرقمية، أن لا رادع لها، ولا هي محل رقيب ولا حسيب، ولا أحد يكترث لها، وتنفذ جهرا ونهارا بلا مخططات تآمرية مدروسة أو مدسوسة مثل تلك التي كانت تستهدف اللغة العربية زمن الاستعمار. لقد شدت حالة المسخ هذه بعض الشباب الجزائري ممن انخرط في مواقع "اليو تيوب" فراح يجمع نماذج من اللافتات التي تحكي حالة المسخ تلك ويعد انطلاقا منها فيديو كليبات صغيرة مضحكة ومسلية تمتزج فيها السخرية والاستهزاء بالاستغراب وعلامات الاستفهام، بعضها ترفق بتعاليق وأخرى لا تحتاج لأدنى تعليق، وبإمكان المتصفح لتلك المواقع أن يجمع أكبر قدر ممكن من تلك اللافتات التي يرصدها الشباب بالأحياء الشعبية التي تزخر بها العاصمة الجزائر عند مداخل المراحض العمومية التي يوكل تسييرها لصغار الخواص ومحلات الأكل السريع وواجهات الوكالات العقارية التي تعكس في الحقيقة مستوى اصحابها التعليمي، ولا تتردد تعاليق شباب "اليو تيوب" في الإشارة بالقول "يحدث هذا في بلادي فقط". ومن المفارقات المضحكة أيضا أن السلطات المختصة لا تحرك ساكنا تجاه ما يشبه الفوضى في تحرير اللافتات التي يصعب على الكثيرين قراءة عباراتها بعدما راح أصحابها يستخدمون فيها ما يطلق عليه في الجزائر دون غيرها من دول الجوار مثل الشقيقتين تونس والمغرب "الشرابية" CHARABIA أي استعمال الحروف الفرنسية أو الإسبانية للتعبير عن لفظة عربية مثل BNINA أي لذيذة أو GOSTO "أي المزاج أو HAYLA أي رائعة وغيرها من الكلمات الهجينة التي لا هي عربية خالصة ولا فرنسية صحيحة . ولم تعد الأخطاء التي "تستبيح" رونق لغة فولتير وترمي بها أرضا تتوقف عند اللافتات التي تنتشر في شوارع العاصمة الجزائر المغمورة أو الموغلة في الحياة الشعبية البسيطة بل تجدها في لافتات تنتشر في شوارع تعد واجهات حقيقية للعاصمة، فالأخطاء قد تكون أقل وطأة إذا وجدت في لافتات تسكن أحياء شعبية مثل باب الوادي وبلكور وسالم باي وباش جراح وبوروبة لكنها ليست كذلك إذا انتشرت في شوراع مثل العربي بن مهيدي وحسيبة بن بوعلي وعسلة حسين فهي علاوة على أنها تشكل قلب العاصمة ومرآتها فإنها تحمل أسماء شهداء أكبر ثورة تحريرية عرفها القرن العشرين كتب استقلال الجزائر بدمائهم الطاهرة من أجل أن يصان دينهم وتنتصر لغتهم وتحفظ هويتهم وحري أن تحترم أرواح هؤلاء بإعادة الاعتبار للغة الضاد ولغة القرآن التي استشهدوا دفاعا عنها وعن أرضها. وتحضر اللغة الفرنسية بحروفها العرجاء وعباراتها الهجينة بقوة في الشعارات واللافتات التحريضية أو الموالية التي يرفعها الشباب فوق مدرجات ملاعب كرة القدم لنصرة فرقهم الرياضية أو خلال مواسم الاستحقاقات لدعم الأحزاب التي يحبون وانتقاد تلك التي لا تروق لهم، فتتحول الجدران إلى قاذفات لقبيح الكلام أو المعسول منه، حتى تسمية الأحزاب ظلت مرتبطة وما تزال في أذهان العامة بالأحرف الثلاثة التي تكتب بالفرنسية وتختصر اسم الأحزاب سواء كانت أحزابا ديمقراطية أو وطنية أو إسلامية، فلا أحد في الجزائر، يدعو الحزب الحاكم مثلا باسمه الكامل دون أن يعتمد على تسميته المختصرة بالأحرف الفرنسية فيصبح حزب "جبهة التحرير الوطني" هو ال FLN وتعمد الصحف الصادرة باللغة العربية إلى ترجمة المختصر فتكتب "الأفلان" وهكذا هو الحال بالنسبة لجميع الأحزاب السياسية التي لا يعرفعا العامة إلاّ من خلال اختزالاتها باللغة الفرنسية مثل ال FFS أو RND أو RCD حتى الحزب الإسلامي المحظور "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي رفعت شعار الدولة الإسلامية والانتصار للغة العربية وحماية الثوابت الوطنية، والتي حققت فوزا ساحقا في الدور الأول من الانتخابات البرلمانية العام 1992، جرت تسميتها المختصرة ال FIS على ألسنة الناس مثلما تجري النار في الهشيم، فأصبح الجميع ينام ويستيقط على اسم "الفيس". وذاعت التسمية المختصرة للحزب بالفرنسية في الأسواق الشعبية وفي المساحات التجارية وفي المحطات الإذاعية والملتقيات الفكرية والندوات السياسية، ولا غرو أن تجد هذه الاختزالات تتزاحم وتتناحر وتتنافس فوق المساحات الإشهارية وجدران الأحياء الشعبية والراقية على حد سواء في أوج الحملات الانتخابية، يهتف بها الكبار والصغار، وتتوارثها الأجيال أبا عن جد . ولعل الجميل في السطوة التي يمارسها الحرف الفرنسي على صدر اللافتات أو الملصقات العشوائية التي تهتف بحياة أو موت الحزب الفلاني أو الحزب العلاني بكل الأخطاء المعشعشة فيها، أنها تنجح بأعجوبة في الوصول إلى الآخر والتأثير فيه، بل تقلب أحيانا كثيرة معادلة الوعاءات الانتخابية، ولا "تخجل" في مجاورة عشرات اللافتات والملصقات الرسمية المنمّقة وجميلة الديباجة التي تراهن عليها قيادات الأحزاب للظفر بأصوات الناخبين. والمحزن في الأمر كله، أن بعض الباعة أو مالكي محلات الأكل السريع، وأولئك الذين توكل لهم مهمة حراسة الورش التابعة للخواص أو حظائر السيارات، يفضلون الكتابة باللغة الفرنسية على كثرة الأخطاء التي يقعون فيها على أن يكتبوا إرشاداتهم أو تسميات محلاتهم باللغة العربية، فالنظرة إلى اللغة الأم ما تزال دونية، ولا يتردد الكثير من الشباب من الاستهزاء باللغة العربية الفصيحة ويخجل بعضهم من التعاطي مع حروفها، وينظر البعض الآخر إليها على أنها متأخرة ولا تصلح لتزيين واجهات المحلات أو أن تعلو مداخل المساحات التجارية بالأخص تلك المتخصصة في بيع آخر صيحات الموضة أو ما يعرف في الجزائر ب "محلات القريفة" (ينطق القاف هنا مثل الجيم في اللهجة المصرية) التي تستورد الثياب الفاخرة أو الرياضية أو العطور والأحذية ذات الماركات العالمية، فهناك لا يعتد أحد بالحرف العربي ولا يمنح له مكانا إلى جانب الحرف الفرنسي، وتقف عند هذه الحقيقة في الأحياء الراقية وفي كبريات شوراع العاصمة حيث يمارس الحرف الفرنسي سطوته الموجعة على نظيره العربي مقابل عجز هذا الأخير من التحرر بعد أزيد من نصف قرن عن استقلال البلاد من هذه "الضرّة" التي ينظر إليها بنوع من القدسية وهي التي لم تكن يوما لغة العالم الأولى ولا لغة مخابر العلم ولا لغة التقنية وتنكنولوجيا العصر.