خلال الخمسين سنة الماضية، لم يتجاوز العرب في كل ما ترجموه وفي كل الطبوع والفنون عتبة العشرة آلاف كتاب، أربعة آلاف منها قامت بترجمتها هيئات أجنبية.وحتى في هذا العدد المخجل والبئيس تميز هذا المنجز الترجمي بالفوضى والارتجال والقرصنة. وبهذه الحال ومن خلالها تكشف عن علاقة مبتورة ومتخلفة مع الآخر ومع الفكر والإبداع الإنسانيين. وهي الحال الحزين التي تعري علاقة العرب بالكتاب.إن الترجمة تكشف وبشكل مباشر عن ذوق القارئ الذي تتم الترجمة لأجله وله، وتكشف في الوقت نفسه عن مستوى الانشغالات الأساسية للإنتلجانسيا التي يراهن عليها المجتمع في عملية التغيير والتنمية. إذا ما أردنا أن نعرف مدى تطور شعب من الشعوب أو لغة من اللغات أو فكر من الأفكار العالمية علينا أن نقيس ما قيمة الترجمة عند هذه الأمة أو في هذه اللغة أو منها. واللغة التي لا يترجم إليها ولا يترجم بها تموت. لأن الترجمة تمرين للغة من خلال استعمالها واستيعابها وتوصيلها وتبنّيها ما يجد في المحيط التاريخي الراهن الذي تعيشه.إن عزوف العربي عن الترجمة ليس سببه تدهور تعليم اللغات في البلدان العربية وحسب، هذا التعليم الذي أضحى هزيلا في الجامعات الحكومية كما في الجامعات الخاصة، إنما هو نتاج إحساس مريض يسكن الذات العربية ونعني به »الشعور بالاكتفاء الذاتي« في الفكر والإبداع، فنحن أمة الشعر إذن لا داعي لترجمة الشعر، ونحن أمة لغة الجنة فلا داعي لتعلم لغات أخرى، ونحن من صدّرنا الطب والحكمة للآخر إذن لا داعي لتعلم ما أعطيناه البارحة للآخر، ونحن شعب لغة البيان فلا داعي لترجمة الرواية ونحن ونحن ونحن... إن ثقافة النخوة التي ورثناها من عهود الفكر الفروسي لاتزال هي المتحكمة في سلوكنا وفي طرق تعاملنا مع الآخر فكرا وإبداعا. كل شيء قد يكون فيه اكتفاء ذاتي، في الاقتصاد والتجارة والتقنيات، إلا الفنون والآداب. تظل كل أمة، مهما تطورت، بحاجة إلى اكتشاف منجزات الآخر. وهذا الاكتشاف هو الذي ينقذ البشرية من أمرين: التخلف (حالنا) من جهة والتنميط (حالة الغرب) من جهة أخرى. وحتى يدخل العرب التاريخ دخولا مضمونا ومؤكدا عليهم إعادة النظر في واقع الترجمة لديهم. وحتى تكون الترجمة التي ننشدها مندرجة ضمن رؤية تنموية ومستقبلية نحتاج أول ما نحتاج إليه وقبل الانطلاق في أي مشروع وطني أو قومي إلى: 1- وضع قاعدة بيانات مضبوطة ودقيقة لكل ما ترجم حتى الآن من اللغات والحضارات المختلفة إلى العربية وهذا مشروع يمكن أن تتبناه جهة من الجهات التي تعنى بالبحث. 2- نحتاج أيضا إلى وضع تقييم دقيق وجريء بعيدا عن السياسوية الشعبوية التعليمية لواقع تعليم اللغات الأجنبية في جامعاتنا، وذلك لمعرفة واقع التدريس وكذا لمعرفة واقع اللغات الأجنبية في العالم العربي. وبالتالي وضع استراتيجية جديدة لإنقاذ تعليم اللغات الأجنبية وكذا لمعرفة لماذا يعزف العربي عن تعلم اللغات الأجنبية. 3- ونحتاج أيضا إلى وضع قاعدة بيانات دقيقة لكل ما ترجم من العربية أو من فكر العرب إلى اللغات الأخرى. ومحاولة قراءة هذه الترجمات لأنها الخطاب الذي يسوق صورتنا المشكلة في ذهن وتصورات الآخر عنا. حين ندرك ذلك نكون بالمقابل قادرين، إذا ما توفرت الرغبة، على تصحيح هذه الصورة وتوجيهها وإعادة تشكيلها. 4- ونحتاج قبل هذا وذاك إلى قاعدة بيانات لمعرفة قائمة شاملة للمترجمين العرب لأن هذه الطاقة العربية الكبيرة هي التي نعتمد عليها في نقل الآخر إلينا، وهي نافذتنا التي نطل منها على هذا الآخر بكل تنوعه. 5- ونحتاج إلى قاعدة بيانات عن المترجمين العالميين، على قلتهم، في كل اللغات الذين ينقلون بها وفيها ما ينتجه العرب إلى شعوب العالم. وهو ما يجعلنا نفكر بجد في دعم هذا الطابور من جنود الخفاء. للأسف فعلى قدر ما قدمه بعض المترجمين الأجانب والعرب وما بذلوه من مجهودات من أجل توصيل صورة عن ثقافتنا إلى الآخر إلا أن العرب لم يولوهم أية أهمية ولم يكرموا التكريم اللائق بمقامهم لا في الحياة ولا بعد الموت على هذه القاعدة الأولية وانطلاقا من هذه المقاربة أريد أن أؤكد أيضا على ضرورة حضور الدولة في دعم الترجمة، وأن يكون هذا الدعم موجها لهيئات خاصة وحكومية تتولى متابعة الترجمة مع المحافظة على استقلالية العمل من الضغوطات والتوظيفات السياسوية. 6- و لمعاينة حجم الكارثة التي يعيشها الفكر العربي في باب الترجمة، وعلى المباشر، أدعو إلى تأسيس مكتبة عربية خاصة تجمع فيها جميع الكتب المترجمة وفي كافة الميادين، الكتب المترجمة من وإلى العربية. آنذاك سنكتشف هول الكارثة الفكرية ونكتشف لماذا طغيان ثقافة الخوف من الآخر عند الإنسان العربي ولماذا ثقافة الخوف من العربي عند الآخر. وحين أقف أمام هول هذه الكارثة التي نعيش نفقها ونفاقها، فإنني لا أنفي أبدا بعض المجهودات التي بذلت من قبل بعض الشخصيات التي تحولت إلى مؤسسات وهنا أذكر بما تقوم به الدكتورة سلمي خضراء الجيوسي من ترجمات الآداب والحضارة العربية إلى الإنجليزية. كما لا يمكن تجاهل العمل الذي كان يشرف عليه الدكتور طه حسين في خمسينيات القرن الماضي حين كان على رأس الهيئة المصرية للتأليف والترجمة والذي سعى إلى ترجمة ألف كتاب. في تصوري يعد هذا المشروع أهم مشروع ترجمي عند العرب حتى الآن لما كان يتمتع به من منهجية في الاختيار، إذ عمد، في البدء، إلى ترجمة الكلاسيكيات الانسانية التي عليها يتأسس الفكر المعاصر. انطلاقا من ذلك تمت ترجمة بعض من الفكر اليوناني وبعض من كلاسيكيات الآداب الأوروبية والأمريكية .وعلى الرغم من الجدية التي حكمت وتحكمت في هذه الأعمال المترجمة والتي من المفروض أن تمثل إقلاعا حقيقيا لتأسيس النهضة الثانية، إلا أنها هي الأخرى لم تنج من الرقابة والمنع والقص.كما يجب التنويه ببعض ما تقوم به بعض دور النشر العربية من ترجمات كما هو الشأن بالنسبة لدار الآداب، دار توبقال، دار الطليعة، ودار جرير وغيرها. تظل الترجمة أيضا مقياسا حقيقيا لمستوى حرية التعبير المهددة في العالم العربي. أربع مؤسسات متواجدة في العالم العربي، من المفروض، أنها هي التي تتحمل عبء الترجمة، وهذا قليل في أمة تريد أن تخرج من التخلف. وهذه المؤسسات هي: أ- المركز القومي للترجمة والذي يترأسه الأستاذ الدكتور جابر عصفور وأعتقد أنه يتقدم بكثير من الثقة وهذا نظرا للخبرة التي يتمتع بها هذا المثقف الكبير الذي يشرف عليه ولعل ما قدمه من عمل متميز تجاه الكتاب حين كان منشطا ومديرا عاما للمجلس الوطني للثقافة يؤكد على ذلك، إذ استطاع أن يجعل من هذا المجلس مزارا ثقافيا ومحطة متميزة في الفكر والحوار والنشر، عربيا ودوليا. ب- المنظمة العربية للترجمة، ومقرها في لبنان والذي يرأسها الباحث الدكتور طاهر لبيب وأعتقد أن هذا المركز بدأ يفقد كثيرا من قوته ووجوده الفاعل على المستوى القومي. ج- المعهد العربي العالي للترجمة الذي تترأسه الدكتورة إنعام بيوض ومقره في الجزائر وهو تابع للجامعة العربية وهو حديث النشأة وأعتقد أن قانونه الأساسي الذي يجعل منه معهدا للتكوين غير صائبة ويحمله عبئا إضافيا وربما أكبر من حجمه، فالتكوين من مهمات الجامعات، وكان الأحرى هو توجيه عمل هذا المعهد للترجمة الفعلية. د- مؤسسة »كلمة« (أبو ظبي الإمارات العربية) التي أنشئت في السنوات الأخيرة قبل وأعتقد أن المال الذي يعول عليه في مثل هذه المؤسسة ليس هو الكافي لحل مسألة تخلف العرب في الترجمة، إنما المسألة أكثر تعقيدا من ذلك. تبدو صورة الترجمة عند العرب وبعد مرور قرن تقريبا على ترجمة الإلياذة إلى العربية والتي كانت احتفالا كبيرا ثقافيا، سياسيا وأدبيا حضر حفل صدورها المفكرون والأدباء والقادة السياسيون آنذاك، تبدو هذه الصورة رهينة العمل »الهاوي« والارتجالي ولم تدخل بعد عالم الاحترافية. الشروق الجزائرية