يُولد بعضُ الناس ويموتون وما لهم من قضية. ويولد بعضهم فيجد أمامه جملة من القضايا يظل عمره كله مشغولاً بها، فأي، الفريقين هو المحظوظ، وأيهما أكثر امتلاءً بالحياة وأوفر نصيباً من معانيها ؟. قد يقول قائل إنه لا أحد في الوجود دونما قضية تؤرقه ، وان للفريق الأول قضية كبرى هي أنفسهم: أهواؤها ومآربها، وانهم من ذلك في قلق دائم وهمّ مقيم، ونحن ندفع هذا الاعتراض بتوكيد ان المقصود بالقضية عندنا هو المشكلة التي تحول بين المرء وقلبه، وتنأى به راغماً عن كل هوى ومأرب، وتقبض أعنة عمره، وتأسره فلا يستطيع فكاكاً منها، والا فان الامتلاء والتفريغ الحسيين شاغل مشترك للإنسان والحيوان في آن، وهما ان اردنا التوسعة في الدلالة قضية رئيسة عند كل الأحياء. وإذ تنحصر دلالة ما نريد في ما وراء الهموم الذاتية، أي في القضايا من نوع: قضية عرب فلسطين، وقضية عرب العراق، وقضية التمزق العربي، وقضية التخلف العربي، وقضية التحرر من الاستعمار؛ وما جرى مجرى هذه كلها، فان سؤالنا السابق سيأخذ صيغة اخرى هي: أيهما اسعد حالا أصحاب مثل هذه القضايا ام الآخرون الذين هم في مفازة منها وما هي منهم على بال؟. لستُ اذكر على وجه التحديد من هو ذلك المفكر او الفيلسوف الذي قال إن وطني هو حيث تكون للإنسان ؟ باطلاق ؟ قضية ، ولكن مثل هذا التحديد للوطن ؟ على عموميته ؟ ومثل هذا التطوع الاخلاقي لاحتمال قضايا الآخرين هما ما يميزان الإنسان الحق، وما يقومان دليلاً على عمق الاحساس بالحياة على ما ينبغي ان تكون عليه من كرامة عامة لا تقتصر على احد من البشر او على أمة او على عرق او لون او لسان. ويتضح مما تقدم أن الذين تملأ قضايا الإنسان، حيث كان، آفاقهم عليهم، هم بالضرورة الأكثر غبطة بالحياة، على توافر أسباب الشقاء فيها، وعلى كثرة ما فيها من مظالم وشرور. أمّا مَنْ يشتغلُ بخاص امره، ومَنْ يعكف على اشيائه الصغيرة ولباناته، ومن تكون قضيته الكبرى هي نفسه وقد عريت من كل قيمة، فما احسب انه يعرف الى السعادة سبيلا، كما لا يمكن ان نصف بالسعادة حال البغل العفيّ وهو متوفر ليله ونهاره على الماء والشعير. نخلص، إذن، إلى أن الإنسان الحق صاحب قضية ما دام في الأرض ظلمٌ (اجتماعي أو سياسي)، وما دام في الارض استقواء على الضعفاء، وما دام في الارض استعمار للشعوب واستخفاف بكراماتها. واذ استقر بنا المقام على هذه النتيجة، فإننا نضع هامشاً او استدراكاً يقول: إن في الناس من يستغل القضايا التي تعاني منها امته فيغامر على مدها وجزرها، وصعودها وهبوطها، فهو في ظاهر أمره صاحب قضية وفي حقيقة أمره صاحب دكان على أسوأ ما يُفهم من معنى ذلك، وكم تشقى بمثل هذا المغامر حياتنا، وكم نحن معنيون ؟ في كل مستوى وعلى كل صعيد ؟ بدفع هذا الشقاء. الرأي الأردنية