أكثر ما يأتي تشويه صورة الوطن والتأليب عليه من جهة الطعن في أنظمته ونزاهة أحكامه القضائية، وكم هو مؤسف أن تكون بعض صحفنا هي من تمد الإعلام الخارجي المغرض بما يمكن أن يوهم السذّج والبعيدين عن ملابسات القضايا بأن قضاءنا بعيد عن العدالة والنزاهة والإنسانية، وأنه أكثرُ جناية من الجاني نفسه. يجني الجاني، ثم يحكم عليه بحكم قضائي مصدق من المحكمة العليا، وليس بفتوى مفتٍ يمكن أن يقال فيها: إنها مجرد رأي! فيفزع المحكوم عليه - الذي هو في الأصل جانٍ مستحق للتعزيز في أقل تقدير - إلى بعض الصحف؛ لتنتصر له من القضاء، ولتحوله إلى بريء وقع ضحيةً لقسوة القضاء وحيفه! ويتحول بسخرة أقلام بعض المحررين إلى شاهدٍ على القضية بعد أن كان خصماً فيها، وتؤخذ أقواله وادعاءاتُه مأخذ البينات والحقائق! وهؤلاء المحررون الذين يتلقفون شكاوى من صدر فيهم أحكام قضائية لا يكلفون أنفسهم عناء التحري والتحقق والتثبت ولو حفاظاً على شرف المهنة وسمعة صحفهم، وليس التحري والتثبت بالعمل المُكلف، ولا المتعسر لو أرادوه، حتى وإن افترضنا أن وزارة العدل لم تتجاوب معهم، ولم ترد على استفساراتهم! فمن المتقرر أن لوزارة العدل حق التحفظ في التصريح بشيء يتعلق بقضية ما زالت منظورة لم يُبتّ فيها بشيء، وحتى لو لم يكن لها في ذلك عذرٌ، فهل يجيز هذا للصحافيين أن يتجاوزوا المعايير المهنية ويسحقوها تحت أقدامهم لكرامة جانٍ من الجناة، فينشروا قضية قضائية برؤية أحد خصومها؟! تشويهُ سمعةِ السلطة القضائية ليس تشويهاً للقضاة فحسب، بل هو تشويهٌ لسمعة الدولة نفسها، وإذا لم يكن من وازع ديني يزع المحرر (المواطن) عن هذا التشويه المبني على التزوير والتلفيق، أفلا يكون له من الحس الوطني ما يحمله على التريث والتحقق وترك العجلة في نشر قضايا يتلقف روايتها من الجاني أو قريبه، لا ينتج عنه إلا تهييج الرأي العام على القضاء، ومن وراء ذلك تهييج وسائل إعلامية خارجية متربصة؟! لقد كان آخر هذه الجنايات الصحافية على السلطة القضائية قصة «فتاة الجبيل» التي حُكم عليها بالسجن والجلد؛ لاعتدائها على مديرة مدرستها وتهديدها بالقتل، وليس في الحكم ما يثير أو يُريب، لولا أن إحدى صحفنا أذنت لنفسها أن تسمع القضية من قريب الجانية؛ وكأنه جهة محايدة؛ فتأتي الرواية تصور أن عمر الفتاة 12سنة، وأن جَلدَها سيكون بمحضر الطالبات في المدرسة! فكيف يحكم عليها بهذا الحكم القاسي وهي لا تزال قاصراً؟! مشهد لا يصدقه عاقل؛ ولكن تصدقه احدى الصحف، فتطير في الآفاق؛ لتتلقفها وسائل إعلام خارجية متربصة، وهكذا بأيدينا نشوه سمعة وطننا، ونئد في ضمائرنا ما بقي من حسٍ وطني...كان بقيةً مما ورثناه من آبائنا، أو مما تعلمناه في مدارسنا الوطنية! وبدا لنا جلياً أن ما بذلناه من أموال وجهود منذ سنين لتحسين صورة الوطن ذهب كثير منه في جرة قلمِ محررٍ! ومن المؤسف أن يتعاطف مسؤول (سعودي) في جمعية حقوق الإنسان مع هذه الرواية، فيصرِّح قبل أن يستوثق من المصادر الموثوقة تصريحاً متعجلاً استغلته وسائل إعلامية خارجية طالما حاولت النيل من سلطتنا القضائية. وتجد وزارة العدل نفسها مضطرة إلى تصريح خاص استدراكاً لتصحيح الصورة؛ ولكن ما أفسدته صحيفة لا تصلحه وزارات، ولم يكن للتصريح أثرُ التلفيق المنشور ورقياً وإلكترونياً، ولم يعبأ به أولئك، فما زالوا في نشوة الطعن في خاصرة السلطة القضائية، ولو حُمِّل ذلك على حساب الوطن بأجمعه. سؤال أخير: لماذا تعطف بعض الصحف على الجاني أكثر من عطفها على المجني عليه؟! ما أكثر أن تجد هذه الصحف في خط الدفاع عن الطالب ضد المعلم، ومع الجاني ضد القضاء... وفي هذه القضية ذاتها: أين حق المديرة التي ضربتْ، وهُددت بالقتل، وأُهينت في عملها الوطني، وفي مؤسستها الوطنية؟ أليست هي الأخرى امرأة تستحق أن يعزر من ينال منها؟! على الأقل: أليس لها حق أن تبقى قضيتها مستورة لا تلوكها الألسن فتنقلب عاراً عليها وشماتة؟! والسؤال الأكبر: أليس لوزارة العدل الحق في مقاضاة من تساهل في التبيّن، فتسبب في التشويه؟! * أكاديمي في الشريعة. [email protected]