أزد - عبد العزيز المنيع - بعيدا عن لغة الحماسة وبكثير من الحكمة ولغة العقل يقدم الدكتور محمد بن أحمد بن صالح الصّالح رؤيته للتداعيات الخطيرة التي أفرزها الفيلم الأمريكي المسيء للرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام . ويتحدث الصّالح وهو العضو في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والعضو في الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين واستاذ الدراسات العليا بالجامعات السعودية ومعاهدها عن الأساليب المثلى التي يمكن للمسلمين أن يواجهوا بها تمادي الغرب في تحقيرهم كاستغلال ما تتيحه استخدامات وسائط الإعلام والاتصال الحديثة من إمكانيات لتصدير صور مشرقة عنهم بعيدا عن شطط الشارع والعنف . وفيما يلي نص الحديث الذي أجرته " الرياض " بالعاصمة الجزائر مع الدكتور محمد بن أحمد الصّالح وهو يستعد لمغادرة الجزائر بعد مشاركته في الطبعة العشرين لمجمع الفقة الإسلامي بوهران . * أثار الفيلم الأمريكي ( الإسلاموفوبي ) المسيء للرسول الكريم حفيظة المسلمين فخرجوا للشارع منددين به وبمن يقف وراءه . هل صار الاستنكار والتنديد والإدانة وأحيانا التعنيف أقصى ما يمكن للمسلمين القيام به لمواجهة تمادي الغرب في الإساءة للإسلام وأهله ؟ - كان العرب عندما استقبلوا الوحي من قبل المصطفى عليه الصلاة والسلام قرآنا عظيما يتلونه واستقبلوا السنة النبوية من فمه وأفعاله ، عندما آمن الناس بالرسول وباليوم الآخر ، انتشر النور في الدنيا وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ومن ضيق الحياة إلى سعتها ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وعلموا الناس كيف يتوجهون إلى ربّ واحد يدعونه لا يدعون أحدا غيره كانت لهم العزّة والكرامة ، وكانت لهم الريادة ، واستقبلهم العالم لا بقوة السلاح أو السيف وإنما لأنهم جاءوا ينشرون العدل ويرفعون الظلم (نشر بجريدة الرياض ) . لقد ضرب المصطفى عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في اللطف والحفاوة والرقة والإعتدال والوسطية لما أرسل معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن قائلا لهما : بشّروا ولا تنفروا ويسّروا ولا تعسروا ، وقال إنما بعثت مبشرا وميسرا ولم أبعث معسّرا ولا منفّرا . وكان عليه السلام يأتي إلى الصلاة ويريد أن يطيل الركوع والقراءة فيسمع بكاء الطفل فيوجز القراءة خوفا من أن تنشغل الأم عن الصلاة أو يتعرض الابن إلى اذى . لقد وصف المولى تعالى المصطفى بالقول ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) وكما وصفه المولى بقوله ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) أو كما قال تعالى مخاطبا أمة محمد كلها ( وقولوا للناس حسنا ) . وكما نرى، فدين الإسلام دين اليسر ودين الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وينبذ الاعتداء والتطرف ويعمل على إدخال السرور إلى الناس وإزالة الأذى عنهم . * معنى ذلك فضيلة الشيخ أنكم غير راضين عن الأساليب التي تم بها الرّد على الفيلم المسيء للرسول ( صلى ) مثلما حدث في ليبيا وتونس ومصر مثلا ؟ -أنا اقول إن المسلمين عندما ساروا على منهج المصطفى " عزّوا وانتصروا وارتفعت راياتهم ورحّب بهم الناس في الصين والسند وبلاد الفرس وبلغوا بإسلامهم جنوبفرنسا وإسبانيا ، لكن عندما تخّلى المسلمون عن منهج الله ومنهح المصطفى ذلّوا وضعفوا وهانوا على العالم واستقوى عليهم العدو بدءا باحتلال القدس إلى الاعتداء على الصومال ثم السودان ثم العراق وما استطاعت 20 دولة عربية فعل شيء لأن المسلمين صاروا ضعفاء . والحقيقة أن المسلمين اليوم سلبوا عزّهم وسلّط عليهم عدوهم ، فهذه صحيفة في الدانمارك تسيء للمسلمين قبل أكثر من سنة وهذه صحيفة أخرى في فرنسا تقوم بالفعل نفسه ، ثم الفيلم الأمريكي المسيء للرسول ( صلى ) . وأنا استغرب من المسلمين اليوم خروجهم إلى الشارع من أجل فيلم يسيء لنا ويثار حوله كل هذا الشطط وقد اعتدي علينا نحن المسلمين من قبله . لقد اعتدى الغرب قبل هذا الفيلم على أعراضنا وبلادنا وأراضينا ولم نفعل شيئا . صحيح أننا نفدي محمدا بأرواحنا وأبنائنا وأموالنا ، لكن أعتقد أن الغرب اليوم يسعى لاستفزازنا ولا يهدف من وراء هذه الأعمال سوى الاستفزاز . *على ذكر الاستفزاز ، يبدو أن الغرب ماض نحو مزيد من الاستفزاز تجاهنا نحن العرب والمسلمين ، فبعد الفيلم الأمريكي تتحدى مجلة فرنسية ( شارلي إيبدو ) مشاعر المسلمين مرة أخرى وتنشر رسوما كاريكاتورية مسيئة للرسول ( صلى ) . هل يمكن اعتبار ذلك تآمرا خارجيا على المسلمين لدفعهم إلى العنف والفوضى في وقت يقف الشارع العربي اليوم على صفيح ساخن على خلفية تداعيات ثورات الربيع العربي ؟ -أعتقد أن الهدف من الاستفزاز هو دفع العامة من الناس للخروج في مظاهرات تنتهي عادة بمشادات بين هؤلاء وقوى الأمن أو تنزلق أحيانا إلى ما لا يحمد عقباه ولقد رأينا ما حصل في ليبيا ومصر وتونس . وما حصل في ليبيا يخالف تعاليم الشرع السمح ، على اساس أن الإنسان لا يؤخذ بجريرة غيره ، وأن القرآن الكريم في الآية ال 7 من سورة الزمر يقول ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وأنا أقول إن السفراء ورجال الأعمال الذين يأتون إلينا من البلاد الغربية علينا واجب صون أرواحهم ودمائهم وفي الآية ال 8 من سورة الممتحنة (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّاللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ونجد في الآيات من 105 من سورة النساء إلى الآية 113 توضيحا لوجوب العدل مع المظلوم وعدم الإساءة إليه ومحاسبة الظالم . وهذه هي وسائل الدعوة التي يجب أن تكون بين يدي المسلم لتبيان سماحة الإسلام وإشراقه . * أنتم تُذِّكرون فضيلة الشيخ بواجب صون الوافد إلينا من الديانات والثقافات الأخرى ، وتستنكرون في الوقت نفسه ما قام به العامة من الناس في الشارع العربي والإسلامي تعبيرا عن حنقهم وغضبهم ، من موقعك كرجل علم وفكر كيف ترون الطريقة المثلى في تعاطي المسلمين مع مثل هذه الاستفزازات ؟ - اقول أولا " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس " ثم إن أفضل تعاط مع استفزاز الاخر الغربي هو بالعودة ثانيا إلى المنهج السلفي الصحيح ، إلى القرآن والسنة المطهرة ومنهج الصفوة من الأمة والخلفاء الراشدين والصحابة المهديين ، وهو المنهج الذي ينأى عن العنف وينأى عن المغالطات ، العملية لا تحتاج إلى جهاد ولكن إلى كثير من الصبر والمصابرة . وبهذا المنهج فقط يستطيع المسلمون أن يوضحوا الحق ويزهقوا الباطل بالاستعانة بالوسائل العصرية الحديثة واستغلال ما تتيحه استخدامات وسائط الإعلام والإتصال لتصدير صور مشرقة عنا نحن المسلمين بعيدا عن شطط الشارع والحماسة والعنف . *أنتم تدعون الناس إلى العودة إلى المنهج السلفي الصحيح ، وكثير من الفاعلين في البلاد العربية ، وأخص بالذكر المثقفين والإعلاميين والمفكرين لا يرون الدين مصدرا للرقي وينظرون إلى الخطاب الإسلامي على أنه أحد العوامل المنتجة للتخلف والرجعية ؟! - هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم . إن ما نراه ونقوله هو الحق ، فإما أن يتبعوه أو يذهبوا إلى الحجيم . وفي القرآن الكريم إشارة إلى أمثال هؤلاء ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) الآية 116 من سورة الأنعام . * فضيلة الشيخ عندما نقف متفرجين على حالة التأزيم الحاصلة اليوم بين الغرب والمسلمين لمجرد رسم كاريكاتوري أحمق أو فيلم سينمائي رديء ومبتذل تقفز إلى أذهاننا كل تلك المؤتمرات والندوات التي كانت تعقد منذ زمن ليس بالقريب من أجل التقريب بين الأديان أو الحوار بين الحضارات أو التعايش بين الثقافات ، هل حالة التشنج الحالية بين الغرب والمسلمين هي شهادة على عدم جدوى كل تلك الجهود و فشلها في تجنيب الصدام ؟ - عكف المصطفى عليه الصلاة والسلام مدة أزيد من 10 سنوات على تصحيح العقيدة وتنقيتها من الشوائب وترسيخها في النفوس واهتم ببناء الأخلاق قبل أن تفرض الصلاة . فسورة الأنعام وهي مكية ، مبنية كلها على تصحيح العقائد والأخلاق في الآيات 151 و 152 و 153 ، وفي سورة الإسراء وهي مكية أيضا 22 وصية جامعة للقيم والمثل العليا من الآية 23 إلى الآية 39 وفي سورة المؤمنون وهي مكية كذلك 6 صفات لورثة جنات النعيم نصفها صفات أخلاقية ... * ولكن لماذا عجزنا عن توصيل كل هذه المثل والأخلاق إلى غيرنا ، إلى هذا الآخر الذي ينظر إلينا على أننا قوم سوء وعنف ، بل لماذا يفشل المسلمون في أن يكونوا وهم ورثة هذه القيم نماذج مشرقة لهذا الغرب ؟ - ( مقاطعا ) لضعف الإيمان وضعف اليقين . المسلمون الآن أسلبت قلوبهم في حب الدنيا . والعلاقات بين الناس صارت اليوم تقوم على أحد الأمرين : إما علاقات مادية أو علاقات فساد أما الأخوة في الله فلا تكاد توجد ، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام اتق المحارم تكون أعبد الناس وارض بما قدّر الله لك تكون أغنى الناس واكرم جارك تكون مسلما وأحب للناس ما تحب لنفسك تكون مؤمنا . وقد جاء رجل إلى النبي عيسى عليه السلام فقال يا معلم الناس الخير كيف أكون تقياً لله حقاً ؟ قال الأمر هيّن ، أربعة أمور تلتزم بها ، أن تحب الله في قلبك كله فلا يكون في قلبك مكان لأحد ، وأن تعمل بكدّك وقوتك ما استطعت ، وما لا تحب أن يوّجه إليك لا توجهّه إلى غيرك ، وأن تحسن الى بني جنسك ، فقال الرجل من هم بين جنسي يا معلم الخير ؟ قال : بنو آدم ، أي العالم كله والإنسانية كلها . ويقول عالم آخر ثلاث معدومة جدا : حسن الوجه مع الصيانة ، حسن الخلق مع الديانة أي معاملة الغرب في بلادهم معاملة مثالية وهذه من أفضل أنواع المعاملات ولو نكون في بلادنا وحوشا كاسرة ، والثالث حسن الخلق مع الامانة . وأنا أعتقد أنه بمثل هذه المثل والوسائل يمكن أن يستعيد المسلمون هيبتهم ومجدهم ومكانتهم لدى الآخر ولكن بكثير من التضحية والصبر . الآية 8 من سورة الممتحنة والمائدة والآيات من 105 إلى 113 من سورة النساء هي كلها آيات بمثابة دستور المسلمين في التعاطي مع الآخر وطريقنا في الحوار والتفاوض معه . هل تعلمين أن المسلمين مثلا هم من أسوأ الناس في المملكة المتحدة ، وهذا عرفته من حوالي أربعين سنة ، ففي مدينة برمنغهام أكثر من 100 مسجد وعدد هائل من المسلمين ، وبسبب نزاع بين مسلمي هذه المدينة فشل مترشح مسلم من دخول مجلس العموم البريطاني فأسقط صوته ونجح بدله مترشح يهودي هذا فضلا عن صفات دميمة يتصف بها الكثير من المسلمين هناك كالتزوير والكذب والجحود . * ما تزال البنان موجهة إلى الخطاب الإسلامي الراهن وتتعالى الأصوات المنتقدة للخطاب نفسه كلما طفت للسطح أزمة بين المسلمين والغرب وكأنها تتهم علماء الأمة من دعاة ومفكرين بالتقصير في التسويق الحسن لصورة المسلمين والفشل في تصدير مثلنا الجميلة التي كنتم تتحدثون عنها قبل قليل أي إسلامنا السمح المشرق ؟ - لا لا ، هذه إدعاءات كاذبة مغرضة ، هناك خطاب إسلامي معتدل ولا يمكن القفز عليه ، لا شك هناك مسلمون سيئون جدا ، وعنيفون ومتطرفون لكن فيه في الكفة الأخرى مسلمون معتدلون بالأخص الشباب منهم ولذلك فالجامعات البريطانية والفرنسية صارت الآن تعترف بحقوقهم وبات هؤلاء الشباب يتكلمون ويكتبون ونأمل أن تمتد هذه الصحوة إلى أمريكا، ومعروف أن ما لا يقل عن 32 % يمثلون هناك الأصولية المتعصبة المتعفنة الشريرة للغاية تكره كل الناس تقريبا على رأسهم العرب والمسلمين ، تصوري أن بوش الابن مثلا لا يتخذ قرارا إلا عندما يستأذن كما يقول ، الأب الذي في السماء ، ويقصد بذلك ، بوش الأب الذي لم يخف تحقيره للمسلمين وكرهه لهم عندما كان رئيسا للأمريكيين . * هل نحن ذاهبون إلى مزيد من التأزم مع الغرب عندما نعلم مثلا أن مناهج التعليم في دول الغرب وفي إسرائيل على حد سواء تكرس ثقافة الكراهية ، كراهية المسلمين وتنمي روح العداء تجاههم ؟ - بالتعقل وكمال العقل والحكمة لن نصل إلى التأزم معهم . وعملا بقول اللّه تبارك وتعالى في الآية 125 من سورة النحل ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) وبقوله تعالى في الآية 46 من سورة العنكبوت ( و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) ، وقوله تبارك وتعالى في الآية 108 من سورة يوسف ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) . إن صفية رضي الله عنها وهي واحدة من أمهات المؤمنين شتمتها بعض النساء وقالت عنها إنها يهودية بنت يهودي ، فغضبت وراحت تشكو ذلك إلى الرسول المصطفى فقال لها : قولي لهم أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد