أنجزت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني مسح وتوثيق وتبتير مسار درب الفيل ، اعتبارا من أول نقطة بمحافظة ظهران الجنوب وحتى منطقة الباحة . وبلغ عدد المواقع 37 موقع على امتداد مسافة تقارب 18 كم وهي الأجزاء الواضحة من هذا الطريق التاريخي ، بواقع 18 موقع في ظهران الجنوب ، و5 مواقع في سراة عبيدة ، وموقع في محافظة خميس مشيط ، و12 موقع في بيشة ، وموقع في الباحة ، حيث شكل فريق عمل مكون من 12 من المتخصصين في مجال الآثار والمساح بمشاركة مكاتب الآثار في عسير و الباحةوبيشة على مدار شهر ، عطفا على توجيهات نائب الرئيس في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني للآثار والمتاحف (آنذاك) الدكتور علي الغبان ، وذلك لتأثير التوسع العمراني على الطريق ، إذ تولى الإشراف العام على المشروع مدير مكتب الآثار في منطقة عسير سعيد بن علي القرني . ورصدت المحطات والرسوم الصخرية الموجودة على امتداد المسار ، و عثرت على مساجد على جنبات الطريق وآبار وعدد من النقوش والمحطات والمدافن الركامية ، كذلك سجلت عدد من الأحجارالميلية والتي كانت تحدد المسافة إلى مكة . ووصل طول المسافة التي وثقت علمياً خلال المرحلة الأولى 44 كم باتجاه مكةالمكرمة ، كما وثقت 23 محطة وموقعاً ، أما في المرحلة الثانية فمسحت ووثقت مسافة 160 كم أخرى و30 موقعاً على مسار الطريق ، وقد عثر على أشكال حجرية ومصليات صغيرة وعدد من الآبار المطوية ، ما زال البعض منها مستخدما حتى الآن من قبل سكان البادية ، إضافة إلى عدد من النقوش والرسوم الصخرية والكتابات الكوفية، وكذلك عثرت هذه البعثات على أجزاء أخرى مرصوفة من الطريق باقية حتى الآن ، وظهر أن أجزاءً من الطريق جرى تحديدها بواسطة الأحجار . ويشار إلى أنه يمكن القول إن تاريخ نشأة هذا الطريق كان مع بداية الألف الأول ق.م, ، وهي الفترة التاريخية التي شهدت زيارة الملكة بلقيس للملك سليمان عليه السلام . ومع اختلاف تسميات الطريق بسبب استخداماته ، إلا أن التجارة كانت أبرز العوامل التي ساعدت على تبادل التأثيرات الحضارية بين مختلف الحضارات داخل وخارج الجزيرة العربية ، ولعل موقع عسير بين كندة في الشرق ونجران ومدن ممالك جنوب الجزيرة العربية في الجنوبومكةالمكرمة ومدن شمال الجزيرة العربية في الشمال ، إلى جانب مرور الطريق التجاري عبر أجزاء عديدة منها جعلها مسرحاً لمختلف التأثيرات الحضارية ، فظهرت جُرش بوصفها واحدة من أبرز حواضرها ، وبلغت أوج ازدهارها خلال فترة ما قبل الإسلام ، واستمرت خلال الإسلامية تمثل أبرز المدن في المنطقة ، وفي الجانب الآخر ظهرت برك الغماد على ساحل البحر الأحمر ، وكذلك ضنكان في ساحل تهامة وتبالة ، وبيشة ، ناهيك عن المدن والقرى والآبار والمحطات التي تنتشر في أنحاء المنطقة بما تحويه من معالم عمرانية وكتابات ونقوش صخرية . وقد شهدت الجزيرة العربية منذ بداية النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد نشاطاً حضارياً متزايدا ، تمثل في ظهور العديد من الممالك العربية في أجزاء مختلفة من الجزيرة العربية ، ففي جنوب الجزيرة العربية ظهرت مملكة معين وسبأ وحضرموت وقتبان وأوسان ، وفي وسط الجزيرة العربية ظهرت كندة التي تمثلت من خلال حضارة قرية " الفاو " ، وفي شمال وشمال غرب الجزيرة العربية ظهر الديدانيون واللحيانيون والأنباط ، أما في شرق الجزيرة العربية فظهرت حضارة الجرهاء ودلمون ، من ناحية أخرى أدت عسير دوراً مهماَ في ازدهار هذا النشاط الحضاري ، حيث أهَلها موقعها الاستراتيجي لكي تكون ممراً لأهم الطرق التجارية البرية التي كانت تربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها الشرقي والغربي ، مما أدى الى نشأة وازدهار العديد من المدن في أنحاء الجزيرة ، وقد كانت تجارة اللبان والمر اللذين تنمو اشجارهما في جنوب الجزيرة العربية وكذلك البخور والطيوب والتوابل والملابس ، وبعض المنتجات الأخرى القادمة من الهند والصين ، تمثل نشاطاً في غاية الأهمية لسكان الجزيرة العربية وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ومصر . ولعل أهمية الطريق التجاري كانت سبباً في صراع القوى السياسية داخل وخارج الجزيرة العربية بين وقت وآخر للسيطرة على المناطق التي يمر خلالها ، أو لتوفير أمن القوافل ، وضمان استمرار الطريق ، وهو الأمر الذي يؤدي الى تغير مسار الطريق من وقت إلى آخر . ومن الجدير بالذكر أن وعورة الجزء الرئيس من منطقة عسير لم تكن عائقا أمام النشاط التجاري ، بل ربما أسهمت في جعلها أماكن مناسبة لأن تكون محطات للقوافل التجارية ، تتوقف بها لمدد قصيرة ، نظراَ لتوفر المياه ، كما أن تعدد مسار هذا الطريق أدى الى نشأة وازدهار العديد من المدن والقرى في شتى انحاء المنطقة ، ذلك لأن الطرق البرية لم تكن ثابتة بسبب اضطراب الأحوال السياسية في المناطق التي تمر بها ، وكثيراَ ما يضطر أصحاب القوافل الى تغيير مسار الطريق المعتاد ، بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني في المناطق التي يسلكونها ويبدو أن موقع عسير احتل مكانة مهمة على هذا الطريق ، ولذلك فان هذه الطرق كان تخترق المنطقة عبر ثلاث مسارات مختلفة من الناحية الشرقية للمنطقة عبر وادي تثليث ، وعبر المرتفعات الجبلية وأيضا عبر السهل الساحلي من الجهة الغربية، أقدم مسارات هذا الطريق هو ما كان يعرف بدرب البخور الذي اشتهر منذ نهاية الألف الثاني قبل الميلاد ، وكان يمر من بئر حمى بمنطقة نجران ، ثم الأجزاء الشرقية من عسير وهي أماكن سهلة الى حد بعيد بالمقارنة بالمناطق الجبلية ، أما المسار الآخر الذي يعد الأقصر من حيث المسافة بالمقارنة بالمسار الأول فيبدأ من صعدة ويمر من ظهران الجنوب ، ثم يعبر جبال السروات حتى الطائف ، وقد تم إنشاؤه على الأرجح في عهد الملك أبي كرب أسعد الذي حكم خلال المدة من 375 – 420م وهو الطريق الذي كانت تسلكه جيوشه عندما كان يذهب من جنوب الجزيرة العربية الى شمالها ، نظراً لما وصلت اليه دولته من تقدم كبير آنذاك ، وهو نفس الطريق الذي استخدمه أبرهة فيما بعد في حملته المشؤومة على مكةالمكرمة واشتهر ب ( درب الفيل ) من ذلك الحين ، ويبدو أن ابرهة اجرى بعض التحسينات على بعض أجزاء هذا الطريق كي تتناسب مع ما كان يضمه جيشه من عربات وفيلة، وتظهر معالم هذا الطريق على شكل أجزاء مرصوفة بألواح حجرية تم وضعها بأسلوب فني دقيق ، ويتراوح عرض هذا الطريق ما بين 6 – 10 م ، وذلك تبعاً لوعورة الأجزاء التي يمر من خلالها ، ويرجح أن هذا المسار كان يستخدم على نطاق واسع خلال العصر الاسلامي وكان يعرف بدرب الحاج اليمني الواصل بين صعدة ومكةالمكرمة ، بجانب المسار الغربي الذي كان يمر عبر ساحل تهامة ويعد أسهل هذه الطرق على الإطلاق .