يضطلع الإنفاق الحكومي بثقل نسبي مهم جدا في اقتصادنا الوطني (بلغ في المتوسط 37.4 في المائة خلال 2013 2017)، ممثلا أهم رافد للنمو والاستقرار الاقتصادي، ودون شك أن أي انكماش في الإنفاق الحكومي سيترك آثاره السلبية في الأجل القصير في الأداء الاقتصادي، وتتضاعف تلك الآثار كلما كان الانخفاض كبيرا ومفاجئا. يجري العمل من خلال برامج التحول والإصلاحات الهيكلية الراهنة، على تخفيف حدة تلك العلاقة، بل تحولها في الأجل الطويل إلى العكس، ليتحول الأداء الاقتصادي، تحديدا الناشئ من القطاع الخاص، إلى الداعم والممول الأهم للإيرادات الحكومية غير النفطية، وهي الرحلة التي ستحمل عديدا من التحديات للأطراف كافة خلال المراحل الانتقالية، ستختفي لاحقا مع تكيف الاقتصاد مع الإصلاحات الهيكلية في نهاية رحلة التحول بمشيئة الله. يقتضي تنفيذ رحلة التحول تلك، أن تعتمد السياسة المالية على ترشيد الإنفاق العام، للسيطرة على العجز المالي وخفضه إلى أدنى مستوياته، والحد من ارتفاع الدين العام وخروجه عن قدرة احتمال الاقتصاد، الذي سيلقي بظلاله وفقا للعلاقة أعلاه بمزيد على الاقتصاد وتحديدا القطاع الخاص، وقد تبنت المالية العامة للحد من آثاره العكسية، عديدا من السياسات التحفيزية، وتخصيص نحو 200 مليار ريال لأجل دعم وتحفيز القطاع الخاص، من المخطط أن يمتد العمل بها حتى نهاية 2020. يشكل العمل على توازن السياستين أعلاه، واحدا من أعقد الأدوار الملقاة على كاهل المالية العامة تحديدا، وعلى راسمي السياسات والبرامج الهادفة إلى التحول بشكل عام، المتوقع خفوت حساسيته مع تقدم برامج التحول من جانب، ومن جانب آخر زيادة تكيف الاقتصاد والقطاع الخاص معه، وصولا إلى ترجمة الأهداف النهائية المأمول تحققها، بتحقق الإصلاح الشامل للاقتصاد، وتخلصه من أغلب التشوهات الهيكلية، التي أعاقته على طريق تنويع قاعدته الإنتاجية المحلية، وتوسيع خيارات استفادته القصوى للفرص الهائلة التي يتمتع بها سواء على مستوى موارده المالية الضخمة أو على مستوى موارده البشرية الوطنية، وتوظيف تلك الإمكانات والموارد في اتجاهات تخدم الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء. إنما يجب التأكيد على أهمية محافظة السياسة المالية على التوازن المنشود أعلاه، ومنح أولوية أكبر خلال الفترة الراهنة لتنفيذ برامج التحول، لتجنب سلبيات انكماش أو تباطؤ الأداء الاقتصادي، وما قد يؤدي إليه من تداعيات معاكسة على مستوى الوظائف، وجاذبية المناخ الاستثماري المحلي. كما يعد من الأهمية بمكان هنا؛ استمرار عمل السياسات عموما على تحقيق مسار متصاعد للنمو الاقتصادي، واستهدافها المستمر بوتيرة أكثر قوة تجاه كبح جماح التضخم، الذي يشكل تضخم أسعار الأراضي والعقارات وتكلفة إيجاراتها، الوزن الأكبر على الإطلاق، سواء على المستوى المعيشي بالنسبة للأفراد والأسر، أو على مستوى الإنتاج والتشغيل بالنسبة لمنشآت القطاع الخاص، والتأكيد في هذا الشأن على أن تحقق كبح التضخم "العقاري تحديدا"، سيكون أحد أهم وأكبر روافد النمو الاقتصادي المستهدف، عدا أن تحققه سيسهم بشكل مبكر في تخفيف كثير من الآثار العكسية للإصلاحات الاقتصادية الراهنة، على الأطراف ذات العلاقة الأخرى "الحكومة، المجتمع، القطاع الخاص". ولا تقف الإيجابيات عند تلك الحدود، بل تمتد إلى الإسراع بوتيرة الإصلاحات الهيكلية، وصولا إلى جني عوائد تلك الإصلاحات في وقت مبكر، المؤمل بدورها أن تسهم في القفز بمعدلات النمو الاقتصادي الكلي، وزيادة جاذبية بيئة الاستثمار المحلية، ما سيؤدي بدوره إلى توسع حجم القطاع الخاص، وزيادة متانته وقدرته على لعب الدور المستهدف له وفقا لبرامج التحول الراهنة، فيكون أكثر تأهيلا لامتصاص مئات الآلاف من الباحثين عن فرص عمل من المواطنين والمواطنات، ويكون أكثر إمكانية على طريق زيادة تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وهو ما سيؤهله بكل تأكيد للعب دور الممول الأكبر للإيرادات الحكومية غير النفطية. كما أن "التضخم العقاري" شكل أحد أكبر عوائق النمو الاقتصادي، وتحسن الأوضاع المعيشية للأفراد والأسر في الفترة ما قبل منتصف 2014؛ أي ما قبل التراجع الحاد لأسعار النفط، وتحوله خلال تلك الفترة إلى أكبر الفوهات التي امتصت فوائض ارتفاعات أسعار النفط، ما منع الاقتصاد الوطني عموما، والمجتمع والقطاع الخاص على وجه الخصوص، من الاستفادة المثلى من العوائد المالية الهائلة خلال تلك المرحلة، وهو ما خلف وراءه كثيرا من الآثار السلبية على مختلف المستويات، لتجده: (1) تسبب في حرمان الاقتصاد والمجتمع على حد سواء من أغلب عوائد ارتفاع أسعار النفط والإنفاق الحكومي. (2) ولم يكتفِ إلى ذلك الحد السابق، بل تجاوزه إلى إلحاق كثير من الأضرار بمقدرات الاقتصاد الوطني، وزيادة كبيرة في تعقيد الأوضاع المعيشية لأفراد المجتمع (غلاء المعيشة)، وزيادة مماثلة أو أكبر في تكاليف الإنتاج والتشغيل على كاهل منشآت القطاع الخاص. أؤكد مرة أخرى أن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد وبالمجتمع خلال مراحل زمنية أفضل من الناحية المالية، جاءت مؤلمة وعميقة رغم كل ذلك! فما بالنا خلال الفترة الراهنة المختلفة تماما على المستويات كافة، بما تحمله من كثير من التحديات الجسيمة، نتيجة انخفاض أسعار النفط، وما ترتب عليه من اعتماد سياسة مالية أكثر ترشيدا، ونتيجة للاعتماد على عديد من سياسات وبرامج الإصلاح الهيكلية "إصلاح أسعار الطاقة، ضريبة القيمة المضافة، رسوم العمالة الوافدة... إلخ"، ليأتي من يقترح بمنع زوال ذلك "التضخم العقاري" دون إدراك أو فهم لمخاطر وآفات استدامته، وأفدح من ذلك مطالب أخرى بالمساهمة والعمل على "زيادته" دون قيد أو شرط! بالعودة إلى ما تم استعراضه في النصف الأول من هذا المقال، وصولا إلى معضلة "التضخم العقاري"، فسيتضح لدى القارئ الكريم وفق هذا المنظور الأوسع، الذي لا شك أنه غائب تماما عن فهم واهتمام من يطالب بزيادة إيقاد "التضخم العقاري"، ودون النظر إلى ضحاياه من قريب أو بعيد، أؤكد أنه ستتضح الأهمية الأوسع للعمل اللازم من الأطراف كافة لأجل إخفات "التضخم العقاري"، وأنه يصب في المصلحة الأعم للاقتصاد والمجتمع باستثناء الفئة الضيقة جدا منه، وأن استهدافه هنا لا ينحصر كما تروج له تلك الفئة الضيقة لمجرد إلحاق الخسائر بها، بل يتعلق بدائرة أوسع وأكبر لا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال لضخامتها بتلك المزاعم الواهية، ترتبط تلك الدائرة الأوسع والأكبر بالضرورة القصوى للمحافظة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في مواجهة التحديات والتحولات الراهنة، وأهمية دعم النمو الاقتصادي عموما، ونمو القطاع الخاص على وجه الخصوص. ليتحقق نجاح التحول الاقتصاد الوطني، وصولا إلى اكتمال عافيته ومتانته؛ لا بد له أن يستأصل الورم الضخم الحجم، الرابض خطأ وسط أحشائه، المتمثل في "التضخم العقاري". والله ولي التوفيق.