وجه (سعدى) تلك المرأة المكافحة لازلت أتذكر إطلالته كل أسبوع من إحدى زوايا سوق القرية وهي تبيع الريحان والكادي وبعض النباتات العطرية.. وكذلك تفعل أخريات.. إنهن يمارسن مهنة البيع كي يوفرن لأطفالهن وأسرهن ما يحتاجونه. (1) .. وفي المراعي والمزارع، حيث مواسم الحصاد وعلى الآبار وفي العديد من مفاصل الحياة تجد النساء يعملن جنبًا إلى جنب مع الرجال. (2) .. كانت حياة مجتمعية انسيابية، عفوية يتشاطر فيها الرجال والنساء العمل معًا، وكل يؤدي دوره في نسق تشاركي واحد. (3) .. ورغم أن النساء كعادة أهل الريف كاشفات الوجوه، والرجال يشاركونهم العمل في كل مكان إلا أننا لم نكن نسمع عن حوادث مشينة.. والسبب ببساطة يعود إلى احتشام النساء ووقار الرجال في تعاملاتهم. (4) .. أكثر الناس كانوا بسطاء وعاميين وقليل منهم من كان لديه شيء من التعليم.. ومع ذلك فهم على بساطتهم يملكون نفوسًا بيضاء ورؤية فطرية نزيهة تقوم على احترام المجتمع والفرد (أيًا كان هذا الفرد ذكرًا أم أنثى)، وإذا ما تعرض أحد لسيرة أحد بسوء تجد أن الجميع يستنكر وتسمع دائمًا تلك العبارة اللطيفة (الله يستر عباده). (5) .. تعايش نقي واستيعاب خلاق مبني على تقديرالآخر واحترام المكون الاجتماعي.. وتسمع من صفات الحمية والنخوة والمروءة والاحترام ما يجعلك تترحم على ذلك الزمن الجميل وعلى أهله الطيبين، وعلى تلك الرؤية القويمة التي كانت تنعكس على سلوكياتهم وتعاملاتهم. (6) .. اليوم نحن شهدنا تحولات مذهلة جدًا في تعليمنا وتطورنا المدني لكن هذا أفرز لنا الكثير من التغير والمتغيرات وفي طليعتها منظورنا الاجتماعي العام سواء على مستوى الفرد أو مستوى الجماعة..!! (7) .. أصبحت سلوكياتنا وتعاملاتنا ورؤانا معقدة وحادة ومتناقضة..!! (8) .. وأصبحت حياتنا معتركًا للشكوك والريبة والتآمر..!! (9) .. جرّمنا المجتمع وقسمناه، وغربناه، وشتتناه واختزلنا الهدى لنا وأقصينا الآخر، وضاقت أنفسنا حتى من أنفسنا..!! (10) .. راقبوا حراك المجتمع أمام كل مستجد، يذهلكم كل هذا الكم من التوارد والتراشق والتجاذب والاصطفافات وكأننا لا ننتسب لوطن واحد..!! (11) .. اليوم، لم يغب وجه بائعة الريحان ولا بائعات السمن والدخن وسنابل القمح.. فلم يزلن يسكن أعمالنا.. ما نحتاجه هو التغيير في رؤانا وتعاملاتنا لنواجه (المتغير القادم) بثبات أفضل وأقوى.