شهدت الساحة السعودية في العقدين الماضيين جدلاً بين الأطراف المختلفة، حول سياسة أولياء الدم في العفو عن «الجناة»، خصوصاً بعد أن تطورت شروط بعضهم إلى المطالبات بملايين الريالات في مقابل إعتاق رقبة القاتل. وبذل الوجهاء من العلماء والأمراء وشيوخ العشائر جهوداً مضنية في سنوات مضت، لمحاولة إقناع كثيرين بالعفو عن القاتلين التائبين بمقابل أو بدون عوض مادي، إلا أن عدداً من تلك الجهود لم تثمر أمام إصرار أولياء الدم على «القصاص» أو المطالبة بمبالغ فلكية مستحيلة، أو بسبب اختلاف الأولياء ما بين مؤيد ورافض. وعلى رغم أن ذلك الواقع تضاعفت معه خطوات، تمثلت في إيجاد أقسام للصلح في معظم إمارات المناطق، إلا أن جوانب منه لم تزل تؤرق القضاة والمصلحين. من جانبها أسهمت هيئة كبار العلماء في معالجة القضية أخيراً من الزاوية الفقهية المحضة، من دون الإشارة إلى ملابسات القضية على الصعيد الميداني، فنشرت مجلة «البحوث الإسلامية» التابعة للهيئة بحثاً محكّماً لعضو كبار العلماء البارز الشيخ عبد الله بن محمد الخنين، خصصه لدراسة موضوع «صلح بعض الورثة عن القصاص بأكثر من الدية، ومشاركة الورثة للمصالح فيما يأخذه». وأكد بادئ الأمر أن «الموضوع تأكدت الحاجة إلى بحثه نظراً لكثرة حوادث تنازل بعض الورثة عن حقه في القصاص بعوض مالي كبير يفوق الدية بمرات كثيرة، فيقع التساؤل: هل ما يأخذه (المتنازل بعوض) يختص به وليس لبقية الورثة إلا نصيبهم من دية قتل العمد، أو يحق لهم مشاركته جبراً فيما يأخذه لسقوط حقهم المشترك وهو القصاص، بسبب صلحه؟». أمر إضافي دفع الخنين إلى العناية بالموضوع، وهو علاقة المسألة بعمله السابق في القضاء، قبل تفرغه للجنة الدائمة للإفتاء المتفرعة عن هيئة كبار العلماء، وهي خبرة تضيف إلى البحث قيمة أكبر بوصف الشيخ تمّ له الجمع بين الدراية الفقهية والميدانية بالمسألة التي يحاول تمحيصها فقهياً. مثال يوضح المسألة الشيخ الخنين صوّر المسألة التي قصد معالجتها، بأنها تعني «أن يصطلح بعض الورثة مع الجاني عن حقه في القصاص بأكثر من حصته في الدية، مثل: أن يُقتل رجل ويرثه خمسة أبناء، فيصالح أحد الأبناء عن حقه في القصاص بمبلغ خمسة ملايين ريال سعودي، بينما حصته من الدية لا تتجاوز – حسب التقرير الحالي للدية – مبلغ اثنين وعشرين ألف ريال، فهل يختص هذا بما صالح عليه، أم يشترك غيره من الورثة معه، علماً بأن دية قتل العمد في وقت تحرير هذا البحث مائة وعشرة آلاف ريال سعودي. وتحرير مسألة البحث أنه إذا عفا أحد الورثة مجاناً سقط حقه في القصاص والدية، وسقط حق الباقين من الورثة في القصاص، وبقي لهم حصصهم في الدية بقدر إرثهم، وهذا مما لم يختلف فيه العلماء، لأن القصاص لا يتجزأ والدية تتجزأ، لكن ما الحكم إذا عفا بعض الورثة فقط بعوضٍ أكثر من نصيبه في الدية، هل يختصّ به أو يشترك معه غيره من الورثة؟». أهمية محاور البحث في القضية التي أشغلت المحاكم في البلاد كثيراً، دفع الخنين إلى تتبع أصلها في المذاهب الأربعة كلها، فجاءت أقوالهم على النحو التالي، مثلما وثقه في مدونات الفقه المعتمدة. الحنفية: قال المرغيناني (ت: 593ه) في «بداية المبتدي»: «وإذا عفا أحد الشركاء من الدم أو صالح من نصيبه على عوضٍ سقط حق الباقين عن القصاص، وكان لهم نصيبهم من الدية». وشرح ذلك البابرتي (ت: 786ه)، قائلاً: «والتعبير بالنصيب إنما أصاب المحزّ في قوله: «وكان لهم نصيبهم من الدية»، لأن الدية متجزئة لكونها من قبيل الأموال، فكان لكل واحد منهم نصيب منها بقدر حقه من الإرث». ومعنى هذا: أن من صالح عن نصيبه من حق القصاص بأكثر من حصته في الدية فليس لباقي الورثة إلا نصيبهم من دية قتل العمد، لأن المصالحة تكون على ما يتفقان عليه. المالكية: قال خليل (ت: 776ه): «وإن صالح أحد وليين فللآخر الدخول معه وسقط القتل». وقال الحطاب (ت: 954ه) شارحاً عبارة خليل: «وإن صالح أحد وليين فللآخر الدخول معه وسقط القتل»: «يعني أن من قتل عمداً وله وليان فصالح أحدهما عن حصته بالدية كلها أو أكثر منها، فللولي الآخر أن يدخل معه فيما صالح به، بأن يأخذ نصيبه من القاتل على حساب دية العمد، ويضمه إلى ما صالح به صاحبه، ويقتسمون الجميع، لأنه هو المصالح به – كما ذكر ذلك ابن عبدالسلام في باب الديات، وله أن يترك للمصالح ما صالح به ويتبع القاتل بحصته من دية عمد، فهذا قول ابن القاسم، وقال غيره: إن من صالح على شيءٍ اختص به، وهذا القول الثاني في المدونة – أيضاً». ومما ذُكر، يتحصل أن في المسألة قولين للمالكية، القول الأول: وهو المشهور عندهم: أن من صالح من الورثة على حقه من القصاص بأكثر أو أقل من نصيبه من الدية جاز، ولبقية الورثة الدخول معه جبراً فيما أخذه في المصالحة، ولهم عدم الدخول معه، ويأخذون نصيبهم من دية العمد، والقول الثاني: أن من صالح على حقه من القصاص بأكثر من الدية أو أقل اُختص به وليس لبقية الورثة مشاركته فيه. ولم أقف لهم على تعليلٍ للقولين. الشافعية: قال الشيرازي (ت: 476ه): «وإن كان القصاص لجماعةٍ فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص... وينتقل حق الباقين إلى الدية». وقال الرملي (ت: 1004ه): «ولو عفا بعض المستحقين وأطلق سقطت حصته، ووجبت حصة الباقين من الدية، وإن لم يختاروها، لأن السقوط حصل قهراً، كقتل الأصل فرعه». وظاهر هذه النصوص أن من عفا من الورثة عن حقه في القصاص سقط القصاص عن الجاني، ولبقية الورثة حصصهم من الدية، ولكن ليس في هذه النصوص أن العفو على أكثر من الدية، ولذا يمكن القول بأن الشافعية لم يقرروا حكم هذه المسألة. الحنابلة: يقول ابن قدامة (ت: 620ه) في «المغني»: «ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقاً أو إلى الدية»، وعن ابن قدامة نحوه في «المقنع». وظاهر هذا أن من عفا من الورثة فلا يستحق الباقون إلا قسطهم من الدية، لكن ليس فيه أن العفو على أكثر من الدية، ولذا يمكن القول بأن الحنابلة لم يقرروا حكم هذه المسألة وخلص الباحث من نقاش تلك الأقوال إلى أن للعلماء قولان في المسألة، الأول: أن «ما يأخذه المصالح من مالٍ عن حقه في القصاص يختص به ولا يشاركه فيه غيره من الورثة. وهذا أحد القولين عند المالكية، وظاهر عبارات الحنفية». أما القول الثاني: فهو أن «ما يأخذه المصالح عن حقه في القصاص من حصته من الدية أو أكثر منها أو أقل لا يختص به، بل لبقية الورثة إن شاءوا الدخول معه فيه جبراً، ولهم عدم الدخول معه واتباع الجاني بحصصهم من دية قتل العمد، ومتى دخلوا معه أخذوا حصتهم من الجاني وضموها إلى المال المصالح به، واقتسموا الجميع حسب الفريضة الشرعية، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية. وهذا القول الأخير هو الذي رجّحه الباحث لوجاهة التعليل الذي فصله الكاتب هنالك.