لئن كانت رحلة الحج في هذا الزمن سهلة وميسرة مع تعدد وسائل النقل الجوية والبرية والبحرية ، إلا أنها تشي بما كانت عليه قديما وحجم الصعوبات التي يواجهها الحجاج القادمون إلى البقاع الطاهرة ، وركوب الأخطار والأهوال برا وبحرا. وهذه إحدى تلك الشواهد التي تدل على صعوبة رحلة الحج القديمة ، وما كان يقاسيه الأولون عند المسير للحج أو العمرة والشاهد كتاب من إصدارات دارة الملك عبد العزيز، يرصد رحلة الحج من صنعاء إلى مكةالمكرمة قبل أكثر من مئتي سنة من تأليف " اسماعيل جغمان " المولود سنة 1212 ه " وقام بالتعليق عليه الدكتور عبد الرحمن الثنيان. ويعد الكتاب أحد المصادر العلمية التاريخية والحضارية المتعلقة بطرق الحج اليمنية ودروبها وما فيه من محطات ومواقف وأحداث وأهوال في البر والبحر مرت على المؤلف الذي أخرج كتابه في القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي. بدأ المؤلف رحلته من صنعاء إلى مكةالمكرمة يوم الأثنين الخامس عشر من شوال 1241ه وانتهى من مكةالمكرمة قافلا إلى صنعاء يوم الخميس العشرين من شهر محرم 1242ه. وحفل كتابه بالعديد من النصوص التي تؤكد صعوبة رحلة الحج القديمة والظروف الخطرة التي عايشها والتجارب القاسية والمريرة التي ألمت به في رحلتي البر والبحر وقام بنقل معاناته النفسية والجسدية بصورة جلية ومن نماذج ذلك قوله : لما غير على البحر الطبيعية " ، " أكثرنا من نطق الشهادة "،" لم تكن تصبر النفس على البقاء في البحر "،" قد ضاق بنا الحال ". ومضى المؤلف في سرد قصة خروجه من صنعاء ومروره بالمراكز والمواطن السكانية والبنادر البحرية ، وما حمله من متاع وزهاب وراحلة وغيرها في عرض وصفي وتفسيري مقتضب. ووضع المؤلف خطوطا عريضة للرحلة وأهدافه المكانية التي يود تحقيقها والوصول لها مع ضبط التوقيت الزمني بهذا الخصوص ، فقال " أولها بعد الخروج من الوطن وهو وصول البندر ( الرصيف البحري ) وثانيها ركوب البحر وثالثها الخروج منه ورابعها وصول مكة وخامسها إتمام المناسك وسادسها السفر نحو المدينة وسابعها وصولها وزيارة قبر مشرفها عليه وعلى آله أزكى الصلاة والسلام وثامنها الوصول لجدة وتاسعها ركوب البحر وعاشرها الخروج منه وحادي عشرها وصول الوطن وحط الرحل وإلقاء العصا وهو غاية المقاصد ". وروى المؤلف تجاوزه البحر ووصوله إلى جازان بإيجاز مفسرا ذلك بالقول " خبر البحر لابد أن اختصر ذكره في الشرح وسبب ذلك ما وقع معي من الربشة وتغير الطبيعة عند دخول البحر لعدم مساعدة الريح كونها شمالية ونحن لانريدها فصادف قطعنا بطن جابر ومرورنا من تلقاء اللحية وفرقنا من جيزان على نحو يومين وإلى نصف الثالث". وصف المؤلف حادثا مهولا صادفهم أثناء رحلة البحر وهو هبوب ريح عاصف كادت تقلب سفينتهم رأسا على عقب إلا أن الله سلم ، وقال في هذا الشان " وفي غبة جيزان كبر هيجان الريح ولاطم الموج ومضى علينا يوم الجمعة الرابع من شهر ذي العقدة سنة 1241ه فتكدرت الساعية وضاقت بمن فيها وجعلت الريح تضرب بمن فيها يمينا وشمالا حتى أيقنا بالهلاك وأكثرنا من نطق الشهادة واستمر الحال من وقت صلاة الجمعة إلى بعد ذاك اليوم". ووصف سعادة وصوله بالسلامة إلى القنفذة بالقول " ولم أرى كيوم الجمعة في البحر شدة كما مضى ولا كيومه في القنفذة سرورا وفرحا بالخلاص واستئناسا بأكثر من المألوف". ومضى المؤلف مسهبا في وصف المناطق التي يصل لها والقبائل التي يصادفها ، وطبائع البلدان ، والطبيعية والمناخ والأسواق والجوامع والبيوت حتى وصل إلى موضع يقال له السعدية وهو علامة على ميقات يلملم - وهو من مواقيت الحج - ظهر يوم الثلاثاء نهاية ذي القعدة من ذات العام. وقال في هذا الموضع " وبعد تمام إحرامنا رحلنا من السعدية كاشفين رؤوسنا محرمين وملبين قاصدين البيضاء ، ولم نصل إلى مكة إلا نصف صبح يوم الأثنين وكان شوقنا للوصول إلى المأمول هو الماحي لوعثاء السفر وإلا فقد يشق بنا الحال مع بعد المرحلة وحمة الشمس وحلق رؤوسنا .. ثم دخلنا الحرم". ومضى المؤلف في شرح مناسك الحج وما يقوم به الحجاج في أيام الحج ، ووصف الحجاج القادمين من مختلف بقاع العالم سلوكا وعادة وطباعا. ثم روى ما جرى إثر قفول القافلة إلى جدة بعد إتمام مناسك الحج صبيحة يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي الحجة فقال " وكان وصولنا من جدة من الفرج بعد الشدة العظيمة من الأهوال في الطريق وعدم الأمن على نفوسنا وما معنا من شدة ووعثاء السفر لما يلاقيه الإنسان التعب ". وفي الخامس والعشرين من شهر محرم سنة 1242 ركب البحر من جدة قاصدا الجنوب مكملا قصته بالقول " وركبنا البحر بعد صلاة العصر من باب النبط في جدة في ساعية السيد عبد الله نمير وهي ساعية عجيبة جديدة " ، ويقصد بالساعية " الساعة " ولم يصل إلى البر إلا بعد شق الأنفس وركوب الأهوال وقال في شأن ذلك " والحمد لله رب العالمين على حال الذي بنعمته تتم الصالحات وكان خروجنا من البحر إلى اللحية يوم الأحد الثامن من صفر الخير سنة 1242ه فما شعرنا به ، ومن بالمرسى بين خائف وراج" وتابع " وحينئذ ازداد فرحنا بالخلاص وأيقنا بالسلامة كما أيقن بها طير فر من محكم الأقفاص". ثم طفق المؤلف في وصف كل ما وقعت عليه عينه من بحر وبر وقرية وآبار وأشجار وأسواق وأودية وشعاب وطرق الحجاج البرية ومراسى البحار وغيرها الكثير حتى وصل سالما غانما إلى بلده صنعاء في اليمن.