ربما لا يخفى على مثقف حجم المعضلة التي نواجهها في حواراتنا اليومية ، وتحديداً حين نبدأ بوصف كل مخالفٍ لأفكارنا ومعتقداتنا على أنه نتيجة متراكمة للتخلف الاجتماعي الذي نعيش به ، وكأن القائل قد ( جردّ ) نفسه من هذه الرجعية وقام بإلصاقها على جبين من عارضه ، أو عارضوه إن تحدث عن أمّة بأكملها . وكان لزاماً على من يصف أمته بالتخلف والرجعية أن يعيد النظر فيما قاله ، وأن يفصلّ في قوله بدلاً من رمي التهم جزافاً على شعب مغلوب لم يجد المتنفس الذي يجعله كائناً حياً في الكون الحضاري الذي يسمح بالإبداع والتميز ; لأن الإبداع بحاجة إلى بيئة عملية تسمح بتطبيق نظريات الورق ، ولو كانت الحضارات المتطورة قد كتبت على الورق ( كما نفعل نحن ) دون وجود بيئة تسمح بتطبيق أفكارها لأصبحت مثلنا تماماً . وهذا ما يجعلنا نطرح سؤالاً مهماً : لماذا نجد عند الكثير من شباب العرب عامةً والسعوديين خاصةً عدة انجازات حين يقومون بأبحاثهم العلمية في البيئات المتطورة بالخارج ؟ لأنهم استطاعوا أن يجدوا البيئة التي تدعم بُنيتهم الثقافية ، ووجدوا الدعم المادي الذي يوفر لهم المختبرات والأدوات التي تقودهم إلى الإبداع ، وجهات رسمية قد تشتري مبتكراتهم بأرقام مالية ضخمة تقديراً لجهودهم العلمية ، وجوائز ضخمة لكل من خدم الفرع العلمي الباحث به . قد يخفى على من ينعت أمته بالجهل والتخلف أن الحضارة (حالة تطبيقية) لفكر المجتمع الذي يقوم ببنائها ، وليست كما يصورها البعض بأنها صورة حقيقية لمعدنه ، بمعنى آخر ، لا يمكن للمجتمع المتحضر أن يكون منزوعاً من الأدوات التي تقوده للإبداع والابتكار ; بينما نرى المجتمع المتخلف بلا أدوات تساعده على الاختراع وإن كان في جنباته مبدعين حقيقيين لم يجدوا فرصةً لإثبات جدارتهم . أدركت بعد عدة قراءات وملاحظات أن تخلف الشعوب ليس إلا نتيجةً لسقوط أحد الأعمدة الثلاثة : الحكومة ، العادات والتقاليد وأخيراً البيئة التي يعيش بها . ولو اكتملت أضلاع هذا المثلث فإن البيئة ستصبح خصبةً للسبل البنّاءة بشتى أنواعها . أستطيع أن أضع ( البيئة ) كقاعدة لهذا المثلث ; فالحكومة والعادات تتطبّع بصفات البيئة ، ولها التأثير الأكبر على بقية العناصر ، ومع ذلك قد تتأثر تلك البيئة بحكوماتها وعاداتها وتصبح تحت ظلالها المعتمة أو المنيرة . من هذا المنطلق أشعر بالخجل حين أقرأ لكاتب يصف مجتمعه بالتخلف و لايعلم أنهم نتيجة متراكمة من معادلة لا يمثلون شيئا منها. حين يكون الشعب فقيراً ، سيضطر آسفاً لمواكبة التخلف لتسيير أمور حياته ، والبحث عن عمل لتناول لقمة عيشه بدلاً من الاجتهاد في تحصيل العلم والتعمق به ، فالدراسة لا تمنح الخبز للدارس ، ومستقبل الوظائف في البلاد المتأخرة مجهول ولا يُشعر المتعلم بالطمأنينة لمستقبله المادي والنفسي . وهذا ما قد يجعله راضياً بأي وظيفة وإن كانت دون مستواه الحقيقي ، فالفرص الوظيفية لدينا لا تتكرر مرتين ! من الخطأ أن نجعل التخلف (صفةً) لذم المجتمعات. فهو حالة اجتماعية يصل إليها الفرد إن فقد القدرة على مواكبة التطور بفكره وماله في المجتمع. وبالمال يتطور الفكر ، وبالفكر ينمو المجتمع ، ووجود عوامل اجتماعية مثل الفقر والبطالة لها دورها الكبير في تعطيل عجلة النهضة عن الدوران . بيئتنا القاسية لعبت دوراً هاماً في الحالة الثقافية السائدة بوصف المجتمع بالتخلف ; لأننا أعتدنا على جلد ذواتنا ، لا جلد الظروف التي آلت لحالنا . يمتهن البعض تحليل مشكلة التخلف الاجتماعي بشكل لغوي نظري لا يصلح إلا للكتب والمحاضرات التي تُقام تحت أجهزة التكييف . أين هم عن التطبيق الفعلي ؟ لا أظن بأنك ستجدهم في الساحة ، لأنهم يجيدون وصفها أكثر من إجادة تشكيلها . معالجة المشاكل التي أدتّ إلى التخلف أهون من وصف المجتمع ذاته بأنه المسبب لتخلفنا بين الأمم ، والتحرك العملي قرين للنجاح النظري ، وبدونه لا فائدة من الفرضيات والنظريات النخبوية التي لا يُمكن تطبيقها بيننا . وطرح المشكلة ونقدها دون الإدلاء بحلولٍ لها كالجائع الذي يصرخ بجوعه ولا يحدد مالذي يود أكله بعد كل هذا الصراخ . وهذا ما يحدث معنا في مجتمع مليء بصراخ الجائعين من حولنا . ماجد محمد العنزي كاتب وروائي سعودي – صاحب رواية شارع برايندلي مهندس في القطاع الخاص – المملكة العربية السعودية للتواصل : [email protected]