زرت أحد الدعاة النبلاء في مكتبه، وبعد جلسة ماتعة رفعت فيها سحائب التكلف أطلعني على بعض مشاريعه وإنجازاته، فدهشت والله من تلك المساهمات التي قدمها في المجالات الخيرية والدعوية والإجتماعية، حتى إن بعضها لينوء بحمله العصبة أولي القوة، فجعلت بعدها أتأمل القاسم المشترك بين هؤلاء المنجزين الذين حققوا قدراً كبيراً من النجاح والإنتاج، فرأيت أن أَوثق رابطة تجمعهم هي (الإصْرار والمواصَلة والاستمرَار). ما أكثر من يبدأ، وما أقل من يواصل إلى النهاية، وما أكثر الأماني وما أندر تنفيذها، والعبرة بالخواتيم لا بفواتح الأشياء. عندما ترى صورة لناطحة سحاب قد وضعت عند بداية المشروع تشعر بالإحباط متى ينتهي أولئك العاملون منها، لكن مواصلة العمل واستمراريته يجعلك تمر بها بعد سنين وهي تسر الناظرين. كنا في المسجد الحرام فسلم رجل مسن أسباني على أخي وطلب أن يحفظ عليه القرآن، فكان يحفظ كل يوم آية، ويذكر عن نفسه أنه يكررها ألف مرة ليحفظها لضعف ذاكرته، ومع المواصلة الدائبة في الحفظ استطاع أن يزيد مستوى محفوظه، حتى أنه تمكن بعد شهر من حفظ وجه ونصف في اليوم. وفي إرشاد قرآني وإشارة ربانية يقول الباري سبحانه: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)، "فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، إما إلى أمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة." [مدارج السالكين (1 / 278)]. فمن لم يتقدم ويبذل وينجز فإنه سيتأخر ويكون عالة على مائدة غيره. ومما يعين على المواصلة: تشجيع النفس وتحفيزها، ووضوح الهدف، والسير على خطة تتواءم مع قدراتك وإمكاناتك، وتفقد ذلك ومراجعته بين وقت وآخر، وقراءة تراجم المنتجين والمنجزين، فإذا قرأت مثلاً عن الإمام مالك وجمعه لموطئه في ستين سنة. [تاريخ دمشق (38 / 238)]، وابن حجر وتأليفه للفتح في خمس وعشرين سنة سوى ما ألحق فيه بعد ذلك. [الجواهر والدرر للسخاوي (2/675)] وابن عاشور كتب تفسيره في تسعٍ وثلاثين سنة وستة أشهر. [التحرير والتنوير (30 / 636)]، أحدث لك ذلك نشوة وهمة في اللحاق بركبهم، وعدم استعجال النتائج وقطف الثمار قبل بدو صلاحها. وأكثر ما يخل بالإنجاز كثرة التنقل من عمل لآخر، والملل والسآمة، ومصاحبة ضعاف الهمة والعزيمة، والاستماع لأراجيف المثبطين والبطالين، وقد تأملت في المائة الأوائل الذين كتب عنهم د.مايكل هارت، فإذا غالبهم عانى من عوائق كثيرة، ومحيطهم لم يكن مشجعا، فنجحوا –بتوفيق الله- بالإصرار والاستمرار، فمهما كثرت العوائق فباب التوفيق لا يغلق. وأختم ببعض الوصايا التي تعين على الاستمرار والمتابعة: 1/ لا تطلق ما في يدك من مشروع أياً كان نوعه لمشروع آخر إلا بعد وضوح في الرؤية، وتأكد من قدرتك على "الإبداع" فيه و"المواصلة"، ومن المستحسن أن تجرب الآخر مع محافظتك على ما بيدك، فإن نجحت في الثاني أطلقت الأول، وإلا فستصبح في النهاية صفر اليدين لا لهذا أكملت، ولا للثاني تممت. والكثير من الفوارق بين عمل وآخر يسيرة، فأكمل ما بدأت به ودع التردد ومحاولة الانتقال إلى غيره ما لم يكن الفارق كبيراً يستحق ذلك. 2/ (فإذا عزمت فتوكل على الله)، ذكر لي أحد الأفاضل من أهل العلم أن شاباً استشاره في منظومتين أيهما يحفظ، فأرشده إلى إحداهما، وبعد عام سأله ذات الشاب نفس السؤال ظاناً أنه نسي سؤاله له العام الماضي، فرد عليه: (لو كنت بدأت بإحداهما لكنت انتهيت منها الآن، وكثرة سؤالك أضاع عليك عاماً كاملاً). إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ فإن فساد الرأي أن تترَددا 3/ على قدر الجهد يكون النتاج، وبقدر الجد يكون الظفر، فلا تستبطئ الثمرة، فالتمر لا يخرج في العام إلا مرة، وانظر بركته وتنافس الناس على سقيه ورعايته لتحصيل عائدته. وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: أأبيت سهران الدجَى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحَاقي 4/ خطوات تمشي ببطء وتُواصِل، خير من أخرى عجلة لكنها تتوقف في المنتصف، قال سعيد بن جبير: (لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك كان أجهل ما يكون) [الحث على طلب العلم للعسكري (ص 60)]. 5/ إنجاز الداعية والمربي لا يقاس بكثرة أتباعه ومتابعيه، وإنما يقاس ببذله وسعه وسيره على طريقة محكمة واضحة، فالنبي يأتي في القيامة ومعه الرجل والرجلان فقط، ويأتي بعض الأنبياء وليس معه أحد، ولا شك أنهم حققوا غاية الإنجاز في اتباعهم أمر الله سبحانه وصدقوا في ذلك، ولم يألو جهداً في طلب هداية الخلق، لكن هداية التوفيق للحق بيد الله (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). على المرْء أن يسعَى إلى الخير جهدَه ........ وليس عليه أن تتم المقَاصد