في علم المنطق لابد للسبب من مسبب والفعل من فاعل. فلا عبثية ولا صدف محضة والسنن ونواميسها مطردة لا تستثني زمان أو أمة أو مكان، إن نظرية الضغط يولد الانفجار سارية المفعول في المادة والمعنى. في كمية غاز تضغط وسط أنبوب، وفي رزمة سوء تصرفات تضغط في عقل أمة وروحها وكبريائها. والعالم الثالث والعالم العربي على وجه الخصوص ليس بمعزل بل هو بيت القصيد منذ غابت سياساته الحاكمة وحلّت قياداته المحكومة لتصير شعوبه كطفل يبكي من لا شيء إذ أن أشياء جعلته لا يحدد بالضبط أو لا يستطيع تحديد أزمته ومشكلته. فالمعيشة، والبطالة، والفساد، والتسلط.. أزمات، وإذلال العالم الأول له، وعدم مراعاة حرمه، وتدليل إسرائيل، وإهانات مجلس الأمن والمنظمات الدولية أزمات. فبالله أيّ هذه الأزمات يصلح أن يكون قشة البعير أو قادح الزناد؟! الذي قلب الطاولة وأثار الإعصار وفجّر الشارع في لحظة. الحقيقة أن "بوعزيزي" جزء من الرزمة الأولى، وهو اليوم ملهم الثورات، وشاحنها ونبع وقودها. الأمر الذي دفع بالجماهير أن تصرخ "الشعب يريد إسقاط النظام"؛ لأنه وفي نظرهم صانع هذه الحزمة وسببها! لكن ماذا عن الحزمة الثانية ؟ هل هي ثانوية أم في المرتبة الثانية؟ فالقصة ترتيب أولويات. إن الشعوب التي تصرخ اليوم: "الشعب يريد إسقاط النظام" -لأنه صنع هذه الأزمات- نفسها لطالما لعنت أمريكا وأوربا والدائمين في مجلس الأمن الذين سببوا الوجه الثاني من أزمات الأمة. والمضحك المبكي أن الحناجر اللاعنة هي نفسها التي بحت تستجدي الملعون أن يساعد في إزالة اللعنة "النظام"! قالب مجهول المكونات في مطبخ مجهول الأهداف، بيد طباخ علمتنا التجارب أنه يجيد الطبخ. هذه الثورات وإلى الآن على الأقل مجهولة الهدف وبلا وجه. تستمد كارزماها من صراخها ومطالبها المثالية في أحيان كثيرة وقودها حماس متدفق وشبابية متفجرة. فإلى الآن سقوط النظام هو الهدف فهل النظام هو كل المشاكل، وإن سلمنا أنه كلها فما هي خطتكم على المدى البعيد؟ الانتخابات في ظل مخلفات النظام ومراقبة العدو الأول صانع النظام. أمريكا وأوربا هذه تصلح أن تكون نكتة، وأخاف أن تصير إذا هدأ الزخم وخفّ الضجيج وانقشع الغبار. فما معنى أن يسقط زين العابدين ليصير الغنوشي؟ ويذهب مبارك ليكون طنطاوي؟ ويزول على صالح ليصير من يصير من صنائع النظام وبمباركة غربية؟! إن قاعدة "ليذهبوا فلن يكون أسوأ منهم" غبية إلى درجة تحاذي بمنكبها غباء أن نعتقد أن الغرب يعمل على إخراجنا من قمقم التبعية والسوق الخصبة والتغييب لننافسه أو نبزه. الله قادر على النصر، والإمكانات موجودة، لكن بالله على تلك الثورات التي نجحت -وإلى الآن- في بلدين مهمين وليبيا واليمن وربما سوريا في الطريق ألم تستطع أن توجد من صفوفها من يخلف النظام المطرود؟! أيّ ضعف تحمله حتى ترضى يجزئ من طفرة النظام الجينية أن تقودها ولو في الفترة الانتقالية زعمت. بصراحة أنا لا أثق بثورة ليس لها قيادة ولا زمام ولا خطام، وتستمد عزها وكارزماها من إيقاعات "الفيس بوك"، و"التويتر"، مجهولة الهوية والمصدر، بمعنى: أن كل واحد من هؤلاء الثائرين يدفع نفسه بنفسه إلى النصر؛ لأنه لا راية تقوده ولا زعيم أو قائد يسوسه. وأنا وغيري وكل الناس نعلم أن "التويتر"، و"الفيس بوك"، والقيادات التقنية الأخرى يمكن أن تنبثق وتتدفق من الحرم، أو القدس، أو الكونجرس، أو دهاليز البيت الأبيض، ومجاهل السي آي أيه، أو الإم آي سكس. لم تكن ثورة نابليون ولا الثورة البلشفية ولا الأتاتوركية ولا الخمينية ولا ثورات البروسترويكا بحاجة إلى حكومات انتقالية. أما ثورات العرب المعاصرة فالحاجة فيها ماسة لعدم وضوح القيادة ومعرفة القائد. قبل احتلال العراق من قِبَل أمريكا كانت صيحات الشرق الأوسط الجديد تصم الآذان منبعثة من دوائر صنع القرار الأمريكية. وبعد الفشل ظهر نمط جديد للنداء لا يقل عن الأول في همته، لكن تختلف الآلية والأسلوب، معتمداً على نمط من التغيير الفكري والاجتماعي في استغلال واضح للتقنية المرئية والمسموعة وأساليب ماكرة يستغل فيها أكبر قدر من علم النفس والاجتماع والدهاء الاستخباراتي ليصير شرق أوسط جديد بلا صاروخ أو طائرة أو إنزال عسكري. ربما لم تكن مطابخ الغرب تعد أصلاً لهكذا قوالب، أو ربما كانت تعد.. المهم أن البوادر ليست بالشكل المطلوب للثائرين ولو في حدود المنظور، وأصبع القناص على الزناد، وعينه على الفريسة. فنفس من الحريات، وحفنة من الدولارات، وشيء من انفراج في معبر رفح.. أخاف أن يكون فتات موائد الطغاة التي نصبت قدورها على جماجم الثائرين. وسبُّ الأمس أخاف أن يخلفه لعن اليوم. رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَّما صُرتُ في غَيرِهِ بَكَيتُ عَلَيهِ هل تأخير الانتخابات في مصر وتونس أو السعي إلى تأخيرها لمصلحة الثوار؟ هل الضجيج حول محاكمة "حسني، وزين العابدين" وإذلالهم هدف الثوار؟ هل هكذا ثورات ارتدادية تقع اليوم منبعثة من رحم الثورة الأم وفي ميادينها هدف الثوار؟ هل إعطاء أقباط مصر رزم من الاسترضاءات –حتى أن إمام الأزهر يزور البابا في بيته- مطلب للثوار على أن سدنة الكنائس القبطية كانوا ضد الثورة وإلى آخر نفس؟! هل ما يتحدث عنه من انتشار للبلطجية والجواسيس في مصر وتونس حقيقة قائمة أم هي .. ! واكتشاف مناجم للفساد يملكه النظام السابق "حصان طروادة" اكتشفها أبناء النظام البائد من رجالات المرحلة الانتقالية لتكون ظهر عبور لهم إلى مرحلة جديدة من الحكم. ولا بأس أن يُضاف إليها رشّات من دم مبارك، ونكهات من أنفاس زين العابدين من فوق عود المشنقة. وليس سيناريو أحمد حسن البكر والأتاسي ومحمد نجيب منا ببعيد. إن من المبكي المضحك في هذه الثورات تزاحم أطراف الشارع على الكعكة ولمّا تخرج من المخبز بعد! فالإخوان، والنهضة، والإصلاح، والشيوعيون، واليساريون، والحوثيون، والحراك.. كلٌ يدَّعي أنه سيد اللعبة، وملهم الجماهير، والمنظّم، والمنظّر.. ولكن في خنادق الفيس بوك! ولغياب الوجه الفاعل بحق، وماسك الزمام بجد، اندفعت الطوائف إلى الولاءات المقيتة في أحيان كثيرة يجمعها نفس يثير الريبة، ويدفع للشك؛ ألا وهو إرضاء "السيد غرب". فالإخوان والأقباط تزاوجوا، والجماعة الإسلامية شَكَّلت حزب سياسي يعارض أصلاً من أصولها في تحريم الانتخابات! والإصلاح جالس الحوثيين، ومخلفات الشيوعيين من رجالات علي ناصر أيام عدن والجنوب، والغنوشي يراهن أن لا حكومة فاعلة بدون حزب النهضة. وكلينتون تنصب عرشها في البيت الأبيض لتقول لمن تشاء: "أنت أنت"، وتقصي من تشاء. يوسف الحجيلان