يعتبر النقد سلاحاً ذا حدين مثله مثل كل الأشياء بالحياة ، فهو قد يساهم في بناء صروح متينة للمجتمع في مختلف المجالات ، وقد يكون معول هدم لصروح قائمة أو يعيق تقدمها.. والمتابع لنبض المجتمع وتحولات أنماط السلوك في الفترة الأخيرة يشهد تحولاً دراماتيكيا في كثير من السلوكيات . ومنها تضخم الحس النقدي لدى بعض أفراد المجتمع تجاه الأشخاص والمؤسسات بحيث لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب ، فتحول كل شيء لديهم إلى خانة الغلط. والنقد الناتج عن القدرة على تكوين رأي مستقل تجاه الأشياء والموضوعات يعتبر شيئا إيجابيا بحد ذاته . وطالما نادى الكتّاب والمفكرون والمصلحون بتكوينه وتنميته لدى الفرد ، ولكن يبدو أن السحر انقلب على الساحر ، والمارد انطلق من القمقم حينما زاد النقد عن حده ، وأصبح نقداً مجانياً ، مجانباً للموضوعية والعقلانية ، وهما أحد أركان النقد البناء. كان الهدف من تقوية الحس النقدي لدى الفرد أن يكون قادرا على تكوين وجهة نظر خاصة تجاه الأشياء ، وتحكيم عقله في الحكم على الأمور ، وبالتالي لا يكون نهبا للأفكار والأشخاص من كل مشرب .. وهذا شيء جميل ولكن النقد لدينا أصبح في كثير من أحواله تغليبا لعاطفة مريضة ، ومصالح ضيقة ، ويقوم على افتراض سؤ النية ، والنظر إلى الأمور بنظرة سوداوية. يرتبك المسئول ويصاب بالإحباط عندما يقدم مشروعاً أخذ وقتا طويلا وجهدا كبيرا دراسة واستقصاءا وتقويما ، ثم يقابل هذا الجهد بسيل من النقد اللاذع، والسخرية المرة ، وذلك ينعكس على أداء إدارته ، ويجعله يميل إلى السكون والجمود خوفا من النقد الجائر ، مع أن الخطأ وارد في جميع الأمور والذين لا يعملون هم فقط الذين لا يخطئون.. يصاب الموظف النزيه الذي يؤدي عمله على أكمل وجه بالإحباط عندما يأتي من افترض أن الأسوأ هو الأصل ، وأن العمل المتقن البعيد عن المصالح والأهواء هو الاستثناء ، ليقول له أن عملكم قائم على الفساد ، حتى لو كان هذا الموظف أبعد ما يكون عن الفساد وأكثر من يمقته.. إن هذا النمط من النقد المتضخم يكون صاحبه واقعا تحت تأثير فكرة أن الآخرين سيئون ، وأن الموظفين لا يؤدون عملهم على الوجه الأكمل ، وأنهم يتحركون بموجب ما تمليه علهم ذواتهم المريضة ، وبما يخدم مصالحهم الضيقة وهذه الفكرة المسبقة تنعكس على سلوكه عند مراجعة الدوائر الحكومية فيكون مشحوناً وقابلا للانفجار لأتفه الأسباب.. وفي المقابل يجب أن لا نغفل الطرف الآخر في العملية النقدية وهو الشخص المنقود ؛ فبعض المسئولين لا يتقبلون النقد ، ولديهم حساسية عالية تجاه من ينتقدهم ، متغافلين أو غافلين عن الحقيقة التي ترى في النقد الهادف الموضوعي وسيلة للبناء ، وإثراء للعمل ، حيث يساهم النقد الموضوعي البعيد عن الأهواء والمصالح بشكل كبير في تحسين الأداء وتطوره في المؤسسة بما يضيفه من وجهات نظر قد تكون غائبة عن ذهن المسئول. وعندما نقول أن بعض النقد يربك العمل ، فذلك لا يعني أن نكف عن النقد، وإنما نرتقي به ، لننقد ما يستحق النقد . وننقده بأسلوب حضاري راقٍ ، بعيداً عن التجريح ، والتقليل من الآخرين ، وقصره على الأعمال دون الأشخاص ، والاقتصاد فيه ، بحيث يكون في محله ، ولا يكون لمجرد النقد ، وعدم الرضا ، كما هو حاصل الآن لدى كثير من الناس.. قطرة مطر: الذين لا يخطئون هم الذين لا يعملون..