في القرآن الكريم أدب النقد، وحسن المعاتبة، وبيان أهمية ذلك في أي مجتمع، مهما كان رقيه الحضاري، والديني، والفكري، إذ لم يسلم من ذلك حامل مشعل الهداية ، صلى الله عليه وسلم ، فكم في القرآن من ذلك ، عبس وتولى{ عفا الله عنك، لمَ أذنت لهم { ما كان لنبي أن يكون له أسرى{ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه{. كما لم يسلم من ذلك أصحابه الكرام ، عليهم رضوان الله تعالى، فنزل في ذلك آيات من سورة آل عمران ، تعاتب ، وتنقد، وتوجه ، وتقرع ، أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم { . منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة { . فالنقد والعتاب ، إذاً ضرورة حياتية ، ومنهج رباني ، جاءت به نصوص الوحيين ، بيد أن من الضرورة أن لا نظن أن النقد معناه نقد الشريعة في تعاليمها أو تشريعاتها أو آدابها ، وإنما هو نقد موجه للسلوك الذي كان عليه حملة الشريعة ، أو سوء تطبيقهم لها . إن النقد لا يمكن أن يوجهه مسلم يؤمن بالله ، وبكتابه ، وبرسوله إلى مصادر التشريع فيه ، أو يعترض على حكم أو نص تيقن أنه من عند الله تعالى ، فهذا يعني عدم الرضا بالإسلام ، وهذه ردة تنزع من صاحبها الإسلام من أساسه. لكن النقد قد يتوجه من حملة الإسلام إلى جهة الإسلام ، لا إليه ، بمعنى أن النقد قد يكون موجها نحو أشياء لها علاقة به علاقة مجاورة، أو سببية، أو تكون بأدنى ملامسة ، ولا يكون النقد موجها لذات الإسلام من حيث هو كما أراد الله تعالى، وكما شرعه على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يتضمن جوانب تختلف كثرة وقلة بحسب أحوال الناس. فالنقد قد يكون لشيء ظُنَّ أنه من الإسلام ، فليس هو من قطعيات الشريعة التي لا تقبل الجدل ، ولا هو من الواضحات المحكمات التي لا تخفى على أحد ، وهذا كنقد كثير من الأخلاق والإجراءات التي يتخذها الناس تجاه المرأة ، وهي لا علاقة لها بالدين ، وإنما هي أمور تحز في نفوس الكثيرين ، وتُعلل في كثير من الأحيان بالدين ، وتلصق زورا بالإسلام. فليس صحيحا أن يظن أحد أن نقد هؤلاء أو هذا السلوك هو نقد للدين ، وللأسف فإن كثيرا من الناس يختزل الإسلام في شخصه وسلوكه ، فيعتبر نقده نقدا للإسلام ، وحبه حبا للإسلام ، وقد ألفنا أيضا رمي كل منتقد ، لشخصية دينية ، أو مخالف لما عليه أهل بلاده – من خطأ – باعتناق مبادىء خطيرة ، كالاتهام الدائم للمخالف بالليبرالية ، والعلمانية ، والتمييع ، وما أشبه تلك التهم ، التي يوصم بها كل من لم يرض بالواقع المخالف للحق الذي يدين الله به . ولا شك أن هذا الضيق لا علاقة له بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. وحيث وجدنا كل هذه الحساسية عند النقد لأننا متدينون فإنه لا ينبغي لنا أن ننكر على الآخرين ممن له توجه ديني إذا غضب عند نقده ، بل لا يجوز أن نسمح لأنفسنا أن ننقده ، لأن نقده أيضا سيعده نقدا للدين ، كما نفعل تماما. ولا يشفع لنا أننا نرى أنفسنا أهل الحق دون غيرنا ، فغيرنا أيضا يرى نفسه هو أهل الحق دوننا . ثم إن ضيق الصدر بالنقد إنما يأتي من حيث عدم وجود الاستعداد لمراجعة النفس والتنقيب عن أخطائها وعيوبها ، وإصرارها على المضي قدما على ما ورثناه سواء كان صحيحا أم لا . إننا بشر نخطئ ونصيب ، ونجهل ونعلم ، والنقص فينا وصف لازم لا ينفك عنا أبدا ، فلمَ نعطي أنفسنا كل هذه العصمة ، وكأن توجهاتنا وأفكارنا مرسومة لنا من السماء! وفي نظري أن رفض النقد قلة في العقل ، وليس من التدين ، فالدين ينمي العقل ويزكيه ، إن الناقد يضيف إلى عقلك عقلا آخر يفكر معك ، والحقيقة أن العقل يأنس بملامسة عقل آخر وإن لم يتفق معه ، فالإنسان قد يصاب بخمول في التفكير ، لكنه عند رؤية نقد أو تفكير آخر يشحذ همته ، ويستعيد طاقته ، ويؤدي وظيفته ، وينشط كثيرا جدا. والنقد في الإسلام له قواعد منضبطة حفظت أصوله من أن يثب عليها من لا يحسن النقد ، ومن أهم هذه الضوابط أن نقد أي توجه وإن كان إسلاميا أو يدعي أنه إسلامي سنقوم بنقده بالإسلام نفسه ، بأصوله ، ومصادره ، وضوابطه ، فإننا لم نختلف في أصل الإسلام ، كونه الدين الحق الذي يجب التحاكم والمصير إليه ، وإنما نختلف دائما في فهمه ، فبالنقد إنما نحاول تبرئته مما علق به . فإذا انتقدنا القول بتحريم قيادة المرأة للسيارة مثلا لا يعني أننا ننتقد الإسلام ، وإنما نحن نبرئ الإسلام من أن يضاف إليه تحريم شيء لم يحرمه – فيما نعتقد - وكما أن تحليل شيء لم يحلله الإسلام جريمة ، فإن تحريم ما لم يحرمه جريمة أبشع. وكثيرا ما يوصم النقد بما يسمونه جلد الذات ، ولا ريب أن من تعود تلميع الذات ، سيصدمه وضع المرآة أمام عينيه ليبصر القذى فيهما ! وبالتالي سيحاول جاهدا تهويل الحقيقة كي تصبح ( غولا ) يفر منه الواقع إلى الخيال ، فيحمي نفسه بأن ما تسمعه ، أو تراه ، أو تحسه ، ليس إلا ألم السياط الظالمة ، تجلدك ، لتفتر عزيمتك ، وتحبط همتك ! ثم إن نقد واقع ما ، لا يعني بالضرورة وجود حل ، أو إمكانيته ، فقد لا يملك المنتقد علاجا ، أو لا يمكنه الإصلاح . فعلى سبيل المثال ، قد أنتقد شدة الزحام في المطاف ، ولا أملك حلا ، فما المشكلة إذا طالبت بحل مشكلة الزحام في المطاف ، دون أن أقترح حلا ؟ فليس عدم قدرتي على حل المشكلة يعني أنها غير موجودة ؟ فهل الحديث عن العنوسة ، أو المخدرات ، أو أي قضية أخرى تلزم المتحدث عنها أن يوجد لها حلا ، أو ليصمت ؟ ثم لا بد من أن نفهم ونعي ، أن أولى خطوات العلاج معرفة المرض ، ودقة تشخيصه ، وقد يعرف ويشخص ولا يمكن علاجه ، أما ترى أن السرطان يعرف ويشخص ولا يعالج في غالب الأحيان ؟ وكثيرا ما يقر المخالف بأن المجتمع لا يلتزم تماما بالضوابط الشرعية . فإقراره بأن المجتمع لا يلتزم إلا ببعض الضوابط ينهي الجدل ، فلو التزم المجتمع بالضوابط كلها لما انتقدناه ، ولكنه يلتزم ببعض ويغفل بعضا ، ونحن ننتقد ما أغفله المجتمع ، لا ما التزم من ضوابط .