يقول لي : إذا رأيتَ من يبالغ في التمسك بشيءٍ فأعرف أنه أبعدهم عنه ..! قلت : كيف ..؟! قال : إن أردتَ معرفة كيف فإليك هذه القصة : يروى أن رجلاً كان أمامَ بيتِهِ شجرةٌ ( فرعاء ) ، خضرةُ أغصانها تملأ عين الرائي جمالاً وتمنحُ نفسه السرورَ ..! طلبٌ غريبٌ ترفعه إليه الزوجة ، نصُّهُ : ( أن يقطع الشجرة عاجلاً ) ..! - لماذا يا زوجتي العزيزة .؟! = لأنني امرأةٌ أخاف الله ، وأخشى أن تهديني عيون ما يقع عليها من طيور ( وزرًا ) ، فوجهي لا أريد أن ( أفتن ) به سواك حتى ولو كان طيرًا..! ابتسم الزوج ، وشعر أن الدنيا من أقصاها إلى أقصاها تضيق به ، ولو طلبتْ جرْفَ مزرعةٍ بما فيها بعد كلماتها التي تدل على ( تقواها ) و( حسن تبعُّلِها ) لما تردد ..! هوى بفأسه على الشجرة وكأنها ألد أعدائه ، فما أبقى لها أثرًا ..! جن الليل ، والزوج خارج القرية ، وحين عاد رأى ( التقيّة ) وقد ارتمتْ في ( حضن الخيانة ) ..! نكّس رأسه وعاد من حيثُ قدمَ دون أن يشعرا به ، وإلى مسجد إحدى القرى المجاورة اتجه ، يتناوب على جلده سوطان ، ( سوط الخيانة ) ، و( سوط الشجرة ) التي اجتثها وهو لا يعلم أن اجتثاثها لم يكن إلا تهيئةً لخطيئة ( تقيّته ) المصونة ، فما كانتْ فكرة قطع الشجرة إلا لتحقيق غايتين : الأولى : أن تزرع الثقة في نفس زوجها ، وتوهمه بالمبالغة في ( التقوى ) ..! الثانية : ألاّ تقف في طريق ( خدنها ) فيما لو انكشف وأطلق ( عنان ساقيه ) في سباقٍ مع ( أحمر الموت ) ..! النحس والمصائب لا يزالان في إثر الزوج ( المكسور ) ، فقد سطا لصٌّ على القرية التي حلَّ بمسجدها والتهمة تتجه إليه الآن ..! مهلاً يا قوم ، مهلاً لستُ أنا مَنْ سرق ، لكنني أعرفه ، ولن أفصح عنه إلا بين يدي ( شيخ القرية ) ..! ينطلقون به وسط ظلام الليل إلى شيخ القرية ، ويسأله : - مَنْ سرق ..؟! = ( صاحب الجلاجل ) التي جعلها في قدميه ؛ لينذر بها ما في طريقه من نمل أو حشرات صغيرة ، ( فتختبئ قبل أن ( يدعسها ) ..! - من ؟! إمامُ مسجدِنا ..؟! = نعم ، وعليكم بقطع رأسي إن لم يكن هو ..! أحضروا الإمام ، وللجلاجل في قدميه جلبة ، وقبل أن يلتقط أنفاسه ( يسوق ) عليه ( شيخ القرية ) سوطه ، ويثني عليه ، وقبل أن يعطيه الثالث يرفع يده معترفًا ..! يلتفتُ حامي القرية إلى ( المنحوس ) ويقول : كيف عرفتَ بأن ( المطوع ) هو من سرق ..؟! فيرد : همستْ به في أذني طيورٌ ( غازلتْ ) الخائنة ..! عجبتُ من القصة ، لكنني لن أجعلها مقياسًا لمن يبالغ ، فربّ مبالغٍ صادقٍ ..! محمد السوادي جدة