كنت في وقت قريب مديراً لمدرسة وكانت هناك اجتماعات لمعلمي المدرسة ( إثرائية ) أي أنها تُعقد وفق خطة زمنية مُعدة سلفاً , لا يتم التداول فيها في توزيع المهام , ولا حصص الانتظار , ولا جداول الإشراف , إنما هي تحريك للهمة , واستنهاض للضمير , وإشباع للرغبات الطموحة , وإحياء للانتماء للمهنة العظيمة , وتبادل للخبرات بين الزملاء , وطرح الجديد في مجال التربية , وفي أحد هذه الاجتماعات المباركة , كان موضوع الاجتماع ( موقف أثّر فيك , وكيف تعاملت معه ) وكانت الدعوة لهذا الاجتماع قد وصلت قبل أسبوع من الموعد لكل معلم ... بدأ الاجتماع ... وكان ثرياً بالإبداع والتجارب ...... إلخ . لكن ما يهمني الآن استعراض موقف واحد ذكره أحد الزملاء . مازلت أتذكّره دائماً , يقول المعلم كنت في سنة من سنوات التعليم في المرحلة الابتدائية , في أحد الأيام وأثناء شرحي داخل الفصل وبالتحديد , بالصف الرابع ابتدائي , وفي منتصف الحصة , لاحظت طالباً اسمه ( ريان ) ينظر إليّ بدون إغضاء ولا إيماء , قد وضع يده على خده , لا يتحرك فيه شيء , ودموعه تنهمر على خده .. دمعة .. دمعة .. وأنا أختلس النظر إليه خفية , حتى لا أُحرجه , ولا لألفت له انتباه زملائه , وهو على هذه الحال لم يُحرك يده , ولم يمسح دمعته , ولم يُعدل هيئته , أُصبت بشيء من الرأفة والرحمة لهذا الطالب , ودار في خلدي أفكار وهواجس عن سبب ذلك , وفي أحد لحظات النظر المتكرر المتقطع لهذا الطالب , وقعت عيني على دمعة وهي تترقرق بكل انسيابية من عينه الشاحبة , وبكل هدوء تنزل من خده وتقع على أصبعه الأوسط من يده اليمنى وهي مبسوطة على الطاولة, فيحك أصبعه بالآخر , دون أية حراك لجسمه , انتابني شيء من القلق , ولم أستطع مواصلة الشرح , فصمتُ قليلاً .. فقطع الموقف صوت , يُفهم منه انتهاء زمن هذه الحصة ( الجرس ) فطلبت من الطالب ( ريان ) أن يجمع دفاتر الواجبات , ويحضرها لي في غرفة المعلمين , فرفع يده عريف الصف ( أحمد ) وقال يا أستاذ أنا الذي كفلتني بجمع دفاتر الواجبات دائماً لما الآن يجمعها ( ريان ) فقلت أنت المرة الثانية , وخرجت .. متثاقل الخطى ... جاء الطالب .. ويحمل بيده الدفاتر ووضعها على طاولاتي , وكنت أرقب مجرى الدمعة على خده . مسحت على رأسه وكتفه وقلت : ما بك يا أبني ريان ؟. قال : لاشيء . قلت : كنت في الفصل تفكر كثير , ولست مركز معنا في الشرح . فخفض ريان رأسه , فاحتضنته وأخرجت من جيبي عشرة ريالات وأعطيته إياه ( وخالجني شعور وكأنه ابني عبدالرحمن ) وأعدت عليه مرة ثانية ما بك يا ريان ؟ فنضر إلي وقال يا أُستاذ كنت أتذكر ( هوش أبي ) أي مخاصمة أبي لأمي , وتهديده ووعيده لأمي , وضربه لأمي كف ... فسالت دموع ريان مرة أخرى ... هنا وقفة ... لكل أب .. لكل أم .. لكل معلم .. لكل مربٍ .. انظر كيف أثر هذا الموقف على الابن , وكيف رق قلبه لأمه , وكيف عاش تفاصيل ذاك الموقف في مكان آخر وزمن آخر .. زملائه يتابعون الشرح , ويُشاركون في الإجابات , وهو يعيش شعور المشكلة ( والله ظلم للأبناء , مشاهدتهم خلافات والديهم ) أغلا إنسان , أعز إنسان , أرفق إنسان , أعلى إنسان في المثالية والأخلاق , ( عند الأبناء ) هم الوالدين . فكيف نجمع بين ( متناقضين ) فانظر موقف خارجي أثر على سلوك طالب في المدرسة , فهل نعرف أن لا نختلف وأن يعامل بعضنا البعض برحمة وود ووئام وعقلانية , وإذا اختلفنا ولا بد أن يكون بدون أن يرانا أطفالنا وأبنائنا , بدون أن يعلم جيراننا , بدون أن يعلم أهلنا وأقاربنا . فهو أدعى للرجوع للمحبة والهدوء . فانظروا كم ستكون هذه العقدة في نفس ريان , وأمثاله كثير . وكذا العكس كم من موقف من أستاذ في المدرسة أثر في طالب في بيته وحياته .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( ألقاكم في إطلالة أُخرى)