رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    دفعة قوية للمشاريع التنموية: نائب أمير الشرقية يفتتح مبنى بلدية القطيف    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    الطفلة اعتزاز حفظها الله    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وسقطتَ في الحفرة يا دكتور !!
نشر في عاجل يوم 22 - 07 - 2013

قد لا أكون مبالغاً إذا قلت : إنني فرحت برد الدكتور تركي الحمد عليّ في هذه الصحيفة كما لم أفرح بشيء من قبل، وما ذاك إلا لأمرين اثنين :
أولهما : أن ردّ الدكتور تركي – مهما بدا متشعِّباً ومرتبكاً – سيفتح المجال واسعاً لمراجعة أفكاره وأفكارنا، وسينشئ معملاً متكاملاً للكشف عنه وعنا، وسيجعلنا – إن نحن شئنا – أكثر فهماً لذاته وذواتنا.
وثانيهما : أنّ ردّ الدكتور قد اشتمل على ما كنت أدينه به من قبل، بل إنه أعطاني أدلة أكبر من سابقتها، وزادني إيماناً بما قلته سلفاً، وهذا ما سيتضح لكم - أعزائي القراء – شيئاً فشيئاً عبر منعرجات هذه الردّ المتواضع.
لقد اشتمل رد الدكتور تركي الحمد - كما تعلمون - على قضايا ليست ذات علاقة بموضوعنا وهي الأكثر بكل أسف، لكنه لم يخلُ من مناقشة قضايا ذات علاقة مباشرة بموضوعنا وإن كانت مشوبة بالسطحية والارتباك، ومتأسسة - في بعض وجوهها - على التلاعب والخداع، لذلك سأوجز ردي هنا على رده في قسمين، بحيث أتناول في القسم الأول القضايا التي أضافها الدكتور إلى النقاش ولم تكن في الأصل من صلبه، وأتناول في القسم الثاني القضية الرئيسة في نقاشنا، وسأحاول - ما استطعت - أن أقرر الرؤوس على كواهلها، بلغة أرجو أن تكون لغة صفر بلاغية كما يعبر (رولان بارت)، بحيث لا تحتمل شحنات تسمح لأحد بأنْ يأوّلها كما يشاء .
وقبل أن أدخل الردّ، وأعافس الأفكار، أعتذر إليكم - قراء هذه الصحيفة الكريمة - عن تأجيل نشر الردّ إلى هذا الوقت؛ ذلك بأنني خشيت أن تغفلوا عنه باحتفالات عيدكم السعيد، هذا بالإضافة إلى رغبتي الصادقة في تنقية عيدنا من أية مواجهة مهما بدت برداً وسلاماً .
واسمحوا لي أيضاً أن أعتذر إليكم - أعزائي - عن الطول النسبي في هذا الردّ، فرجل مثل الدكتور تركي الحمد لا تجدي معه المناقشة الموجزة، ولا اللغة المكثفة؛ لأنهما تمنحانه مساحة جيدة للتلاعب بالدوال والمداليل والأدلة، كما فعل مع ردي السابق ...
وأما بعد، فباسم الله أبدأ، وعليه أتوكّل :
القسم الأول : مناقشة قضايا لا علاقة لها بموضوعنا :
سأتوقف هنا بإيجاز عند ثمانِ قضايا – أو جزئيات – أقحمها الدكتور تركي في نقاشنا :
1-1 أخذ عليّ الدكتور تركي الحمد أنني لم أسلِّم عليه، ثم قال : \" ربما اعتقاداً منه بأنني علماني ... وبالتالي لا تجوز تحيتي بتحية أهل الإسلام \" وهذا المقتطف مهم للغاية فالدكتور تركي الحمد الذي وصفني في رده بأنني أخوض في السرائر، وأعلم ما تكنه الصدور، ابتدأ مقالته هذه بما كان حذرني منه، ولم يجد حرجاً في أن يخوض في سريرتي، وينقب عما في صدري، ولم يكتفِ الدكتور بذلك، وإنما مارس أيضاً عملية الخوض في الأفكار، فقال - في المستهلّ - : \" والعلماني خارج عن الملة بالضرورة في اعتقاده \"، رغم أنني لم أصرِّح في مقالتي السالفة، ولا في مقالة قبلها، ولا في مقالاتي كلها، بخروج العلماني من الملة، لا لأنه ليس خارجاً بالفعل، ولكن لأنّ موضوع الخروج من الملة لا يعنيني وليس من اختصاصي، وإنما تعنيني انعكاسات هذا الفكر أو ذاك على مجتمعنا الذي بدأ إسلامياً - في جانبيه العقدي والفكري - ويجب أنْ يظل كذلك ما حيينا ...
ولكي أغلق هذا الملف الذي فتحه الدكتور - لإثارة العواطف واستسقاء المشاعر - اسمحوا لي أن أبدأ بالسلام عليه وعليكم : فسلام الله ربِّ العالمين على تركي الحمد وعليكم، ورحمته وبركاته، ومساؤه ومساؤكم توبة ومغفرة وحب ومودة...
2-1 زعم الدكتور تركي الحمد أنني قدمت نفسي وصياً على الناس في مقالتي السالفة، لكنّ الناس الذين يحترم الدكتور تركي عقولهم - كما يزعم - لم يشعروا بأنني كنت وصيا عليهم، بدليل تفاعل عدد كبير منهم مع ردي إيجاباً أو سلباً، فهل يعني هذا أنّ هؤلاء جميعهم ليس لهم عقول ولذلك استطاع (الرفاعي) بقدرة سماوية أن يخدعهم وأن يضللهم ؟! إنْ أجبت ب (لا) يا دكتور تركي فتلك مصيبة، وإنْ أجبت ب (نعم) فالمصيبة أعظم !!
فقل لي بربك كيف ستجيب ؟!
إنّ من وجوه الوصاية على القارئ - يا دكتور - أن تحدد له الأوصياء، وإنّ من وجوه الاستهانة به وبعقله أن تخبره بمن يستهين به وبعقله ...
كل ما في الأمر أنني وجدت في مقالتك السالفة مغالطات كثيرة، فأقدمتُ على كشفها، ولم أكن مدفوعاً من أحد، ولا متطلعاً إلى قبول أحد، فكان عليك يا دكتور تركي أن تدخل معي نقاشاً ثنائياً دون إقحام القارئ في دائرة لا تتسع إلا لاثنين، ودون استجدائه بطريقة أكل عليها الزمان وشرب .
3-1 قلتُ في مقالتي السالفة : \"إن الحمد تلاعب بعاطفة القارئ الدينية، وحاول جاداً إيهامه بالانتماء الفكري إلى الدين الإسلامي في عرض هذه الفكرة \" فاستغلّ الدكتور تركي الحمد هذا المقتطف ليخرج به من الموضوع، وليشتِّت القارئ وصاحب المقالة نفسه، فقال : \" هنا غاص الأستاذ الفاضل في سريرتي، وتعمق في مغاليق نفسي، وقرأ نيتي بثقة يحسد عليها، واكتشف أنني لا أنتمي إلى هذا الدين ... \".
واحتراما لقرائي الكرام، وللقضية التي نعالجها، لن أطيل في الردّ على هذه التهمة الساذجة، لكنني أدعو الدكتور تركي إلى أن يتدبر كلمات المقتطف السابق كلمة كلمة، ليستبين أنني أنفي عنه الانتماء الفكري إلى الإسلام، ولا أنفي عنه الانتماء العقدي إليه، فهو مسلم باليقين، ومن كان كذلك لا ينتفي إسلامه عندي إلا باليقين، ثم إنني لست مسؤولاً - كما أسلفت - عن إثبات إسلام أحد ولا نفيه، لكنني أمتلك أدوات تفرق بين من ينتمي فكرياً إلى الإسلام ومن لا ينتمي، ولا أظن الدكتور تركي الحمد جاهلاً بمدلول هذين المصطلحين : (عقدي) و(فكري) !!
4-1 سألني الدكتور تركي الحمد - في رده الكريم - هذا السؤال :
لماذا تركز كثيراً على آيات السيف والدم ؟!
وأنا أجيبه بسؤال أيضاً: من أين جئت يا دكتور بأنني أركز على آيات السيف والدم ؟!
كل ما في الأمر أنك استدليت في مقالتك بحديث \" ... أهون عند الله من إهدار دم مسلم \" لتنفي به حكم القتل تعزيراً بشكل غير مباشر، فنبهتك إلى أن هناك حديثاً آخر جاء في الصحيحين بطرق مختلفة يفيد أنّ النطق بالشهادتين لا يمنح المسلم العصمة المطلقة، بل حتى أداء بعض الأركان العملية مع الشهادتين لا يمنحه العصمة المطلقة - وإن كانت لا تنفي عنه الديانة في كثير من الحالات -؛ إذ إنّ الرسول – عليه الصلاة والسلام – قال : \" إلا بحق الإسلام \" فهذا الحديث الصحيح يخصِّص الحديث العام الذي تستند إليه كثيراً، ولذلك لم يتأخر أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في قتل من منعوا الزكاة رغم كونهم يشهدون بوحدانية الله ونبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – ولم ينكر أحد من الصحابة على أبي بكر فعله، بل إنّ عمر – رضي الله عنه – الذي كان يخالف أبا بكر فيما ذهب إليه قال : \" فو الله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق\" (في الصحيحين) .
ما رأيك الآن يا دكتور، هل ما زلت ترى أنّ الشهادتين تعصم دم الإنسان مطلقاً ؟ أم أن أبا بكر وعمر والصحابة من قبيل أزمة الرجال والمؤسسات أيضاً ؟!
وإذن فاستدلالك بالأحاديث العامة رغم علمك بمخصصاتها تلاعب بالقارئ، وتدثر بدثار الدين لتمرير فكرة ليست من الدين في شيء !!
لقد كنتَ تعلم جيداً أنني سقت هذا الحديث للردّ عليك، ولذلك طالبتك بالجمع بين هذين الحديثين، أو توجيه أحدهما على الأقل، لكنك لما عجزت عنهما معاً، انتقلت إلى اللعب بعواطف القراء، وصوّرتني أمامهم إرهابياً لا يحفل إلا بنصوص السيوف والدماء، في حين أظهرت نفسك معنياً بنصوص الرحمة والعطف على المسلمين !!
إنني أتحداك يا دكتور تركي - مع تحفظي على هذه اللفظة - أمام كل قراء هذه الصحيفة الكريمة أن تسمي لي دولة واحدة، أو حضارة واحدة معتبرة، لم يقم قانونها إلا على الرفق والرحمة...!
إنك تعلم أكثر مني أن دساتير الحضارة الغربية – مع تحفظي على الغربية وصفاً للحضارة – قامت على الرفق واللين من جهة، والشدة والقسوة من جهة أخرى، فمن التزم نال الأول، ومن تجاوز نال منه الثاني...، فكيف تطلب منا يا دكتور أن نركز على نصوص الرحمة والمسالمة ونلغي من قواميسنا آيات الجلد، والقصاص، والقتل، والصلب، والنفي ؟! هل يمكن أن تنبني دولة – ودولة مدنية أيضاً - على قانون لا يملك القدرة على جلد أحد، أو سجنه، أو قتله، بحجة أنه مسلم ؟!
ألا ترى أن تهميش آيات السيف والدم - كما أطلقت عليها - من قبيل الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر، والله جل وعلا يقول : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون، أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } ؟!
إنك ركزت في مقالتك السالفة على آيات المسامحة واللين والرحمة – وهي من حيث الجملة نصوص عامة نؤمن بها ولله الحمد – وتغافلت عن نصوص الحدود والتعزير والمدافعة، ولما حصرتك بدليل واحد يفسد عليك انتقائيتك لم تستطع الرد فوصفتني بالانتقائية على حدّ \" رمتني بدائها وانسلت\"، وعلى حدّ \" قابل الصياح بالصياح تسلم \" وهنا - ولكي أعيدك إلى الزاوية التي هربت منها - أقرُّ بين يديك وأعترف أنا خالد بن أحمد الرفاعي بأنني أؤمن إيماناً تاماً ومطلقاً بنصوص الرحمة كلها، الداعية إلى السلم، والعفو، مع المسلمين أو مع غيرهم، وأرى وجوب تطبيقها، والانطلاق منها في التخطيط المستقبلي لبلادنا ضمن الحدود التي حددها الدين نفسه بلا إفراط ولا تفريط، فهل تمتلك أنت الشجاعة نفسها يا دكتور وتعلن بين يدي قراء هذه الصحيفة إيمانك بنصوص الوعيد والتخويف، ونصوص الأحكام الشرعية العملية بما فيها النصوص الداعية إلى قتل القاتل والمرتد والزاني المحصن، وجلده إن كان غير محصن، وقطع يد السارق...، وما إلى ذلك ؟
إن لم تفعل يا دكتور فاسأل نفسك من الذي يتمسح بالدين، ومن الذي يتلاعب بعواطف القراء الدينية، أنا أم أنت ؟!! واسأل نفسك من الذي يأخذ بالدين كله ومن الذي ينتقي منه ما يتناسب معه ؟
إنني أنتظر تعليقك الكريم على هذه الجزئية المهمة بلغة علمية واضحة .
5-1 أبدى الدكتور تركي الحمد حساسية كبيرة من وصفي له بالعلمانية، وجعل هذا من قبيل التلاعب بالقراء، لكنه رغم حساسيته الشديدة من إطلاقي العلمانية عليه لم يتبرأ منها في رده، ولم ينفِ عن نفسه الانتماء المطلق إليها، وهذا شيء غريب فات كثيراً من القراء الكرام، بل لقد قال الدكتور في رده الكريم : \" وبكل ما يحمله مفهوم علماني في بلادنا من سمعة سيئة ألصقت به لصقاً\"، إذن هو يدافع عن العلمانية أكثر مما ينفي عن نفسه الانتساب إليها، هو - إذن - لا يرفضها لكنه لا يريد لأحد أن يطلقها عليه في مجتمع لا يفهم جيداً مآلاتها ...
هذا ما فهمته من كلامك يا دكتور!! فهل خانك التعبير ؟ أم أنه خانني فهمي ؟
إنني هنا أتحداك يا دكتور أن تتبرأ من العلمانية بوجوهها كافة أمام قرائك في هذه الصحيفة، واسمح لي أن أقول : إنك لا تستطيع أن تفعل؛ لأنك إن فعلت أحرقت أوراقك كلها، ووسدت اسمك في التراب دفينا، وكيف ستفعل وقد دعوت في كتابك (السياسة بين الحلال والحرام) إلى العلمانية في وجه من وجوهها (تنحية الدين عن الدولة) ؟!!
وكيف تستطيع البراءة منها يا دكتور وأنت قد انتسبت إليها طوعاً في قناة المستقلة، يوم كنت والأستاذان (آل زلفة) و(الخليل) في برنامج خاص بمجلس الشورى؟! لقد وصفك أحد المتصلين في ذلك البرنامج بأنك علماني، فأشرت برأسك أن نعم، وذيلتها بابتسامة قبول ورضى، فلماذا تألمت من وصفك بالعلمانية هنا ولم تتألم من وصفك بها هناك ؟ أم أنّ لكل مقام مقالاً ؟!
بربك من الذي يتلاعب بالقراء – إذن – أنا أم أنت يا دكتور؟!
6-1 أشار الدكتور تركي الحمد إلى فجاجة فهمي للحرية، وأبرز كيف أنه فهم قاصر، ومخالف لمراد الله جلّ وعلا، وأنا أقول : إنني لم أتعرّض أصلاً للحرية في مقالتي، ولم أتحدث عنها من قريب أو من بعيد، وكل ما ذكرته أن مصطلح الحرية أصبح عنواناً عريضاً بائساً لكل انفلات من المبادئ والقيم ...، وهذا أمر مجمع عليه حتى لدى الغربيين أنفسهم !!
إنني أقر هنا بالحرية لكن كما يحددها ديننا الحنيف، فديننا الذي فك قيود الناس وأغلالهم، ورفع روابطهم من الأرض إلى السماء، وساوى بين العربي والعجمي، والحر والعبد، والغني الفقير، هو ذاته الذي حدّد حدوداً وحرم علينا تجاوزها، فالله جل وعلا قال: {وتلك حدود الله فلا تعتدوها} ، وفي آية أخرى قال : {وتلك حدود الله فلا تقربوها}، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل تؤمن أنت يا دكتور بأن هناك حدوداً دينية يجب ألا نتجاوزها ؟ واسمح لي أن أسوق مثالاً واحداً لنتناقش حوله – إن شئت - : لقد جاء القرآن الكريم بتحريم الربا، وجاءت السنة بإيضاح صوره المتعددة، فهل تؤمن أنت بحرمته؟ وهل ترى أنّ من حق علماء الشريعة محاربة هذا الفساد الاقتصادي باسم الدين أم أنّ هذا – أيضاً -ً من قبيل الكهنوتية، وأزمة الرجال والمؤسسات ؟
أنت ألان أمام نص قرآني صريح يحرِّم الربا، بصورته المعروفة وأمام أحاديث كثيرة تسرد لك صوره وأنماطه، وأمام شروحات متفقة من أتباع المذاهب المختلفة؟ فما موقفك منها؟!
أريد إجابة واضحة حول هذا المثال يا دكتور بلا لفّ ولا دوران !
وخذ مثالاً آخر إن شئت : أشرتَ في ردك الكريم إلى قضية الحجاب الشرعي، وأبنت عن خلاف نعي جميعاً تفاصيله الدقيقة، وكل ما تريد قوله أنّ هناك رأياً فقهياً آخر يجيز كشف الوجه فلماذا نحرِّمه ؟!
حسناً سأجاريك في هذه المسألة يا دكتور ...
لكن هل تعرف عالماً من علماء الإسلام في أي زمان أو مكان أجاز للمرأة أن تكشف رأسها، أو نحرها، أو صدرها، أو ساعديها، أو ساقيها، .... ؟!
إن كنت تعرف فتكرم بإحالتنا إليه، وإن كنت لا تعرف فلماذا لا تنكر هذا الفساد في أي من مقالاتك ؟ ولماذا لا تكون شجاعاً وتصرح في هذه الصحيفة بأنك ضد هذه الصور المجمع عليها عند علماء الإسلام، انطلاقاً من ديننا الحنيف وليس من أي شيء آخر ؟!
ثم لماذا تسخر من رجال الهيئة، وعلماء الشريعة، حين ينكرون مثل هذه التجاوزات، ويطالبون بمعاقبة أهلها في بلاد تطبق الشريعة الإسلامية ؟! لماذا تصفهم بالتطرف والإرهاب مع أنهم يحاربون فسادا مجمعاً عليه ؟!
أنتظر إجابتك يا دكتور، وأرجو ألا تكون لفاً ودورانا، وكلي رجاء بألا تخرج من هذا السؤال إلى الحديث عن المرأة وقضاياها كعادتك الكريمة ؟!
7-1 وصفني الدكتور تركي الحمد بأنني حصرت الأعمال الخيرية على علماء بلادنا دون غيرهم، وقال : إن \" كثيرين من أهل الخير ليسوا من علماء الشريعة \" وهنا أجدني أمام موقف عجيب للغاية، فمن أين فهم الدكتور تركي الحمد – وهو رجل أكاديمي – أنني أحصر أعمال الخير على علمائنا الكرام؟ هل تضمن كلامي السابق أداة حصر واحدة ؟
حتماً لا ... لكنه اللف والدوران، والالتفاف على الكاتب والقارئ معاً، ونقل الحديث من مجال ضيّق مرهق إلى آخر واسع يعطيه القدرة على الركض الأبدي ...!
8-1 اقترف الدكتور تركي الحمد في رده عدداً من الأخطاء المنهجية، وسأشير هنا إلى أبرزها :
زعم الدكتور أنني تناقضت حين أشرت إلى أن العلمانية تعتمد على القرآن في بعض أنظمتها، وهذا ليس تناقضاً، ذلك بأن كل التيارات الفكرية المنحرفة يمكن أن تجد في القرآن ما يدعم بعض أفكارها لشمولية هذا الكتاب الكريم وعالمية خطابه، والفرق بين هذه التيارات الفكرية المنحرفة والفكر الإسلامي أن هذه التيارات تأخذ من القرآن وتذر، في حين يأخذ الفكر الإسلامي بالقرآن جملة، ويجعله حكماً على أنظمته كلها، وبالتالي ليس هناك تناقض فيما قلته سلفاً .
- استدل الدكتور تركي الحمد بقوله تعالى : {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} ليدل بها على مشروعية الاختلاف مطلقاً وهذا خطأ، والصواب أن هذه الآية تدعو إلى الاتفاق وتحذر من الاختلاف، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف الذين لم تدركهم رحمة ربك، فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟! وكيف يعقل أن يكون ما لا رحمة فيه هو الأصل ؟! وللعلامة الألباني - رحمه الله – تعليق على هذه الآية في إحدى رسائله، وهنا أرجو ألا يكون الدكتور قد تعمد حذف (إلا من رحم ربك) خدمة للفكرة التي يريد طرحها !!
- استدل الدكتور تركي بقوله تعالى : {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} في سياق القول بمشروعية الاختلاف الفقهي، والآية لا تدل على ذلك لا من قريب ولا من بعيد، فهو – إذن – استدلال في غير محله .
- أورد الدكتور تركي الحمد حديث \" أمرت أن أقاتل الناس \" وزعم أنني ذكرته في ردي عليه، مع أنني لم أذكر هذا الحديث بهذا اللفظ، ولم أشر إليه قط، وهذا خلل منهجي، وثلمة في جدار الأمانة العلمية !!
هذه ثمان جزئيات - أعزائي - لا علاقة لها بموضوعنا الرئيس، لكنّ الدكتور تركي الحمد فرض عليّ التعقيب عليها ... واسمحوا لي الآن أن أنتقل إلى تحرير ومناقشة محلّ التنازع معه :
القسم الثاني : مناقشة القضية الرئيسة :قضية نقاشنا الرئيسة هي الفساد، وحدوده، والحكم على أصحابه، وسأعالج هنا هذه القضية بالطريقة المدرسية (سؤال وجواب)، وسأجيب فيها عن الأسئلة الكريمة التي طرحها الدكتور تركي، وسأجيب أيضاً عن أسئلة كان من الواجب منهجياً أن يطرحها، وكلي رجاء بأن تكون إجابتي واضحة بما يكفي :
السؤال الأول : ما الفساد ابتداء ؟ (سؤال تكرر أكثر من مرة في الرد الكريم)
الإجابة : للفساد يا دكتور ضابط محدد لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، ومن الممكن أن أختصره لك في سطر واحد : (الفساد هو : اقتراف الممنوعات أو المحرمات التي تحددها المرجعية الخاصة).
وإذن فضابط الفساد ثابت لا يتغير كما زعمت، وإنما تتغير الممنوعات أو المحرمات بتغير المرجعية الخاصة بهذه الدولة أو تلك، ولذلك ما هو محرم في بلادنا قد يكون مباحاً في أمريكا، وما هو مباح هنا قد يكون محرماً هناك، والعكس ممكن أيضاً ...، وفي كلتا الدولتين يسمى الممنوع والمحرم فساداً .
وللفساد مجالات متعددة : عقدية، وسياسية، واقتصادية، وأخلاقية ...إلخ، وله صور متنوعة: جزئية وكلية، لكن رغم ذلك كله يمكن تعريف الفساد تعريفاً عاماً بأنه انحراف عن القانون الذي تحدده مرجعية المجتمع، ولذلك يستخدم مصطلح الفساد في جميع القوانين، ولدى أتباع المذاهب والتيارات كلها، وبهذا المفهوم يمكن تعريفه في كل زمان ومكان - كما سبق - .
إذا اتفقنا على هذه الجزئية المهمة يا دكتور فاسمح لي أن أنتقل بك إلى سؤال مهم :
ما مرجعيتنا نحن في المملكة العربية السعودية ؟
أجزم بأن الإجابة واضحة لديك يا دكتور، ولدى كل أحد من الناس : إنها المرجعية الإسلامية، بمصادرها المعروفة : (القرآن الكريم، السنة النبوية، الإجماع، القياس) .
إذا اتفقنا على هذه الجزئية المسلم بها فسنتوصل معاً يا دكتور إلى نتيجة مهمة : هي أن تعريف الفساد في المملكة العربية السعودية : (هو اقتراف الممنوعات والمحرمات التي حددتها الشريعة الإسلامية بأي شكل من الأشكال) .
هذا هو التعريف العلمي للفساد في بلادنا، كما أنّ تعريف الفساد في أمريكا هو اقتراف الممنوعات والمحرمات التي نص عليها القانون الأمريكي دون غيره ...
وعند هذه النقطة يا دكتور سنجد للفساد مجالات متعددة، أهمها أربعة :
1-المجال العقدي : كعبادة القبور، والسحر، والتعرض للذات الإلهية، أو ذات الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إنكار ما لا يمكن إنكاره من الدين ...
2-المجال السياسي : كالخروج على ولي الأمر...
3-المجال الاقتصادي : كالربا، والرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، والغش ...
4-المجال الأخلاقي : كالزنا ...
هذه الأشياء جميعها من قبيل الفساد المحدد في شريعتنا، لكنها تختلف باختلاف المجالات التي تنتسب إليها، ولذلك وردت لفظة الفساد في كتاب الله خمسين مرة، وفي كل موضع نجد لها مجالاً جديداً ودلالة جديدة ...، وهذا ما يعطي ديننا الحنيف القدرة على تنظيم الحياة وإدارتها، فضلاً عن تنظيم دولة بعينها !!
السؤال الثاني : إذا اتفقنا على تحديد ضابط الفساد فمن الذي يحدد صور الفساد ؟ (وهذا سؤال مهم ورد أكثر من مرة في الردّ) :
الإجابة : المرجعية التي اختارتها هذه الدولة هي التي تحدد صور الفساد يا دكتور، ومرجعيتنا – كما أسلفت – هي الشريعة الإسلامية، نقرأ في المادة (1) من النظام الأساسي للحكم : \"المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ...\" .
ونقرأ في المادة (7) : \"يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة\" .
ونقرأ في المادة (17) : \"الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية في الكيان الاقتصادي والاجتماعي للمملكة، وهي حقوق خاصة تؤدي وظيفة اجتماعية وفق الشريعة الإسلامية \" .
ونقرأ في المادة (23) : \" تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبق شريعته وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله \" .
ونقرأ في المادة (26) : \" تحمي الدولة حقوق الإنسان، وفق الشريعة الإسلامية \" .
ونقرأ في المادة (45) : \" مصدر الإفتاء في المملكة العربية السعودية كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ... \"
ونقرأ في المادة (46) : \" القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية \" .
ونقرأ في المادة (48) : \" تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة \".
ولقد نقلت لك هذه المواد بنصها يا دكتور ليتبين لك أنّ الشريعة الإسلامية مرجع لبلادنا في المجالات كلها : السياسية، والإدارية، والاقتصادية، والأخلاقية ...، ومادامت كذلك فإن كل ما هو فساد في الشريعة الإسلامية هو بالضرورة فساد في عرف أنظمتنا ومجتمعنا .
السؤال الثالث : إذا اتفقنا على أن الفساد هو ما حددته الشريعة الإسلامية فإن هناك اختلافاً شرعياً في عدد كبير من المسائل، كيف يمكن أن تحكم عليها بالفساد وهي مسائل خلافية ؟
الإجابة : أتفق معك يا دكتور في أنّ هناك اختلافاً فقهياً بين علماء الإسلام في عدد من المسائل كتغطية الوجه، والغناء، وحلق اللحية، والإسبال... إلخ، ولأنها من مسائل الاختلاف فإنه لا يحكم عليها بالفساد المستوجب للعقوبة، وأضف إلى معلوماتك يا دكتور أنّ القضاء السعودي منذ عام 1364 ه لم يحكم على أحد بعقوبة في مسألة خلافية، وهذا مستفاد من واقع السجلات الكاملة للقضاء في المملكة بإفادة من فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم الخضيري القاضي في محاكم الرياض حالياً، وهذا يعني أنّ قضاءنا لا يحكم على حالق اللحية، ولا على من أجاز الغناء، ولا على المرأة التي كشفت وجهها، ولا على الرجل الذي أسبل ثوبه كما تزعم، ما دام يعتمد في كل ما يفعله قولاً فقهياً محدداً...، صحيح أن كثيراً من علمائنا يحرمون هذه المظاهر، ويصنفون بعضها على أنه فساد، لكنهم لا يوقعون على أصحابها عقوبة؛ لكونها من المسائل الخلافية ...، وزد على ما سبق أنه من عام 1364 ه حتى يومنا هذا لم يحكم على مواطن من الشيعة حكما بالنظر إلى اعتقاده المذهبي، وهذه مسألة مثبته في السجلات الرسمية لا يستطيع أحد من الناس إنكارها.
لكن في المقابل هناك عدد كبير من المسائل والصور متفق عليها يا دكتور، وخذ مثالاً على ذلك: امرأة ألقت حجابها (أي أنها كشفت وجهها، ورأسها، ورمت عباءتها، وارتدت بنطالاً ضيقاً، أو قميصاً قصيراً، ولونت نفسها بألوان الزينة والجمال) ثم خرجت إلى الناس في الشارع، هذه المرأة تعد في مرجعيتنا الشرعية فاسدة لكونها اقترفت فساداً، ولم يرد اختلاف بين أي من علماء الإسلام في تحريم هذه الصورة أو تصنيفها على أنها فساد، بل إنه يتفق على هذا الحكم أتباع المذهب السني، وأتباع المذهب الشيعي أيضاً على ما بينهما من اختلاف وخلاف، وزد على ذلك أن الجاهليين أنفسهم كانوا ينظرون إلى هذه الصورة على أنها فساد في فساد، وهكذا ينظر إليها كثيرون من عقلاء الحضارة الغربية نفسها، ولدي أقوال كثيرة لبعضهم تثري هذا السياق، لكن ليس هذا مكان عرضها ...
هذه الصورة يا دكتور محكوم عليها بالفساد اتفاقاً، وكل امرأة وقعت فيها فهي فاسدة في ميزان الشريعة الإسلامية تجوز معاقبتها قضاء، وكل من دعا إلى هذا الفساد فهو فاسد أيضاً وتجوز معاقبته قضاء، ولا فرق بين من دعا إليه بلسانه، أو بقلمه، أو بوسيلته الإعلامية، أو بما شئت من شيء بعد، وقس على هذه الصورة صورا كثيرة لا حدّ لها ...
(ملحوظة يا دكتور : الصورة السابقة ليست إلا مثالاً، وإلا فإن الفساد متعين في رجالنا – يا عزيزي - أكثر من نسائنا) .
صورة أخرى : رجل محصن وقع في الزنى، هو فاسد لكونه اقترف محرماً، ولذلك يقتل لفساده، ومن دعا إلى هذا الفساد، فحكمه حكم الفاسد نفسه...، وهاتان الصورتان تنفيان قولك : \"إنه لا يمكن تحديد ما هو فساد حتى مع وجود النص\" .
وخلاصة الإجابة عن هذا السؤال : أن هناك مسائل ممنوعة ومحرمة في ديننا بالإجماع، وهي لذلك من صور الفساد، فمن اقترفها كان فاسداً، ومن دعا إليها كان فاسداً كذلك، وهذا حكم عام مطرد في التنظير.
السؤال الرابع : هل تجب إقامة الحد، أو العقوبة التعزيرية، على من وقع في شيء من الفساد ؟!
الإجابة : أولاً وقبل كل شيء يجب أن تعرف يا دكتور أن السلطة القضائية لا تبحث عن المفسد لتقيم عليه الحدّ، بل إنها تحرص ما استطاعت على درء الحدود بالشبهات...، لكنْ هناك نوعان من المفسدين:
الأول : مفسد وقع في فساده سراً ولم يعلنه، أو يخبر به، أو يدعو إليه، فهذا أمره إلى الله وهو يتولاه، فإن شاء عاقبه بذنبه وهو شديد العقاب، وإن شاء غفر له وهو الغفور الرحيم .
الثاني : مفسد وقع في الفساد علناً، أو أخبر به، أو دعا إليه، فهذا أصبح فاسداً في نظر المجتمع؛ لذلك تجب إقامة الحد عليه، أو معاقبته بعقوبة تعزيرية؛ حماية للمجتمع من فساده، وحتى إن بلغت عقوبته حد القتل فإنه يظل مؤمناً، ولذلك يغسل بعد قتله، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ولا يجوز لنا أن نذكره بعد موته إلا بمحاسنه .
ولكي أعطي الإجابة هنا بعدا تأصيلياً أكبر، أضع بين يديك - يا دكتور - هذا الحديث الشريف، وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى توضيح، يقول عليه الصلاة والسلام : \" اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها فمن ألم بشيء منها فليتستر بستر الله عز وجل وليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله \" رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.
السؤال الخامس : إذا اتفقنا على صور الفساد وأنواعه فمن الذي يحدد عقوبته الشرعية ؟
الإجابة : الحكم على الفساد يا دكتور يختلف باختلاف نوع الفساد نفسه، فهناك أنواع من الفساد حدد الشرع لنا حدودها : كقتل القاتل، وقتل الخارج على الجماعة، وقتل الزاني المحصن، وكرجم الزانية المحصنة، وكقطع يد السارق، وكجلد القاذف، وجلد الزاني والزانية غير المحصنين...، وكالقصاص المماثل : {والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسنّ}، (المائدة 45) ومثل هذه الحدود يستنبطها العلماء - لا المثقفون - من القرآن والسنة، وجميع من يدعو إلى هذه الأنواع من الفساد أمره إلى القضاء، ويتم الحكم عليه بعد النظر في حاله، ومن الممكن أن يصل الأمر إلى عقوبته بمثل عقوبة المفسد نفسه، وإن لم يندفع بالأدنى وجب دفعه بالأعلى، وهو ما تضمنه كلام الشيخ صالح اللحيدان.
وفي المقابل هناك - يا دكتور - أنواع من الفساد لم يحدد الشرع لها حدوداً، كالتلفظ على الآخرين بألفاظ دون القذف مثلاً، وأمر هذه الأنواع متروك إلى السلطة القضائية التي يعيّنها ولي الأمر، وتختلف أحكامها باختلاف الظروف المحيطة بكل واقعة، ولولي الأمر الحق الشرعي في مضاعفة العقوبة، أو تخفيفها، أو إسقاطها، كما حصل في عدد من الحالات القضائية في الفترة الأخيرة ...
وخذ مثالاً ثانياً : رجل قام بتهريب المخدرات، قام بعمل فاسد لا ريب في ذلك، لكن ليس هناك حد في الشرع لفساده، فأمره هنا للسلطة القضائية، وبالاستناد إلى المادة (64) من نظام محاربة المخدرات المعتمد من ولي الأمر ينفذ عليه حكم القتل، لكنه قتل تعزيري، وجمهور العلماء على جواز القتل تعزيراً، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك إقرار ولي أمر الدولة بما يملكه من صلاحيات شرعية، إن العقوبة والحال هذه تصبح في مرتبة قريبة من الحد الشرعي نفسه، إلا أنه يختلف عن الحدّ في إمكانية إسقاطه من قبل ولي الأمر وفق مصلحة خاصة أو عامة تبدو له.
وبالنظر إلى ما سبق يتضح يا دكتور أن إدراجك المسائل الخلافية في تحديد الفساد والمعاقبة عليه، ما هو إلا تلاعب بالقارئ والكاتب معاً ...، وأضف إلى معلوماتك أنه ليس كل اختلاف معتبراً شرعاً، وقول الفقيه ليس حجة ما لم يكن معه ما يعضده ويقويه من الكتاب والسنة، وهذا ما نصّ عليه الأئمة الأربعة وغيرهم، ومناقشة هذه المسألة تحديداً تحتاج إلى رد خاص إن رغبت في ذلك.
وأخيرا : لقد فككت ردك يا دكتور تركي، وعقبت على كل جزئية أوردتها بلغة واضحة لا تحتمل دلالتين، وأجبتك عن كل الأسئلة التي طرحتها، وعن الأسئلة التي لم تطرحها أيضاً، وحددت لك ضابط الفساد، وأنواعه، ومجالاته، وأحكامه، وأخلص من ذلك كله إلى أنّ من دعا إلى فساد فهو فاسد كما أن من دعا إلى قتل فهو قاتل، وأخلص أيضاً إلى أن الشريعة مع محاكمة ملاك القنوات الفاسدة، سواء كان فسادها عقديا، أو سياسيا، أو اقتصاديا، أو أخلاقيا - شرط أن نملك القدرة على محاكمتهم - وأمرهم والحال هذه إلى السلطة القضائية، فإن كان لفسادهم حد معين في الشرع تم تنفيذه، وإن لم يكن لفسادهم حد معين فللقاضي أن يوقع عليهم عقوبة تعزيرية، ولولي الأمر بعد ذلك الحق في تغليظها، أو تخفيفها، أو تنفيذها، أو إسقاطها، بحسب ما تقتضيه المصلحة، خاصة كانت أو عامة، وإذا كنا لا نستطيع محاكمة ملاك هذه القنوات فلا أقل من الإقرار بمشروعية هذا الفعل.
وبعد هذه الرحلة الطويلة والممتعة، أطلب منك يا دكتور تركي أن تكون موضوعياً في ردك، وأن تجيب عن الأسئلة الثلاثة التي طرحتها عليك في ردي السابق وزعمت أنك أجبت عنها، كما أطلب منك أن تقدم بشجاعة على ما تحديتك به أمام قراء هذه الصحيفة، وإن لم تفعل يا دكتور - ولا أظنك ستفعل - فاعلم أنك قد سقطت في حفرة عميقة...، وعميقة جداً !!
انتهى
خالد بن أحمد الرفاعي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.