يتفق الجميع على نبذ الغلو في الدين، وأنه سبب رئيس من أسباب ظهور العنف والإرهاب في مجتمعات المسلمين المعاصرة. هذه حقيقة مُسلّمٌ بها، ولا أحد يجادل فيها. وبعيداً عن مناقشة أسباب الغلو، ومن صنعه، وما المصلحة التي يرجوها من صنعه، إلا أن الذي نختلف فيه – ويجب أن نتفق عليه- هو أن علاج ظاهرة الغلو في الدين، والتطرف في الفكر، والعنف في السلوك لا يمكن علاجه بالتطرف المضاد، وهو التحلل من الدين، أو إضعاف التدين بين أفراد المجتمع. والإعلام الذي يُسرف في التطرف المضاد بدعوى (حلحلة المجتمع) من (الإيديولوجيا) يُسهم من حيث يدري أو لا يدري في تكريس الغلو وتعزيز التطرف الديني. وهنا نقاط يحسن الإشارة إليها: أولاً: افتراض أن المجتمع قد هيمنت عليه أيديولوجيا دينية أفرزت تطرفاً وغلواً هو – إن أحسنا الظن – افتراض روجت له مراكز البحث الاستراتيجية ووسائل الإعلام في الغرب، التي رأت أن الإسلام هو الصخرة التي تثبت في وجه الأطماع الاستعمارية، ومصالحها في المنطقة، فألصقت تهمة الغلو بالإسلام، وادعت زوراً أن في السعودية – مثلاً- نسخة متشددة من (الإسلام الوهابي)، فسوقت لهذه الفرية عبر وسائل إعلامها والتابعين لها من غير أهلها. وعلى الإعلاميين- إن كانوا غيورين على دينهم ووطنهم- أن ينبذوا هذه الفرية وراء ظهورهم، وأن يعلموا أنهم مستهدفون بهذه المفاهيم المغلوطة. وعليهم أن يتخذوا موقف الدفاع عن دينهم، مستشهدين بماضي المسلمين وحاضرهم، إذ كانوا نموذجاً للوسطية، ومحاربة الإيديولوجيا الدينية المتطرفة، ولا عبرة بحالات فردية سلط الإعلام الضوء عليها، فجعل منها حالة عامة لا استثناء. استصحاب هذه الحقيقة هو كفيل بمحاربة الغلو والتطرف، أما الانجراف وراء التهم التي يروج لها الغرب ووكلاؤه وعملاؤه والمستفيدون منه فإنه يزيد من المشكلة، ويجعل العامة يستشيطون غضباً عندما يتطاول الإعلام على المقدس الديني، أو يهزأ من منظومة القيم التي تربوا عليها، أو يروجوا لقيم الغرب تحت ذرائع الانفتاح والترفيه، والاستثمار، وتقودهم عاطفتهم إلى الانتصار للمبدأ الذي تسلط الإعلام عليه. ثانياً: من السطحية في النظر إلى هذه القضية أن نقصر التفكير على جهل بعض الإعلاميين بخطأ معالجة التطرف بالتطرف المضاد، ذلك أن هذا البعض من الإعلاميين يتفق مع العدو في ضرورة إضعاف التدين في المجتمع بنشر التحلل، والانفتاح غير المنضبط على حضارة الغرب وثقافته. وقد صرح كثير من هذا (البعض الإعلامي) بذلك في مقالاتهم، أو مقابلاتهم الإذاعية أو التلفزيونية، أو من خلال مشاركاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. بل وصل الأمر بهذا البعض إلى الاستهزاء بشعائر بالإسلام، وبكتاب الله تعالى، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانوا أشد خطراً على الدين والمجتمع من أسيادهم الغرب الذين يدينون لهم بالتبعية ولحضارتهم بالانتماء. ولو كان الأمر في قدرة أحدهم لكان مطية يدخل بها الأجنبي إلى مجتمعهم، وكم من شبيه للعراقي أحمد الجلبي الذي امتطاه الأمريكان، فحصل في العراق ما حصل. ثالثاً: بعض الإعلاميين طيّب في ذاته، سيئ في ممارسته الإعلامية. هذا النوع من الإعلاميين يعيش تناقضاً بين نوازع تربطه بالقيم وتجره إلى الخير، وبين تطلعه لمنصب أو وجاهة في الساحة الإعلامية أو المجتمعية. فتراه يتقلب ذات اليمين وذات اليسار، باحثاً عن مال، أو شهرة، أو قُربة. هؤلاء وإن كان خطرهم على استقرار المجتمع أقل من غيرهم إلا أنهم يكملون منظومة الإعلام الذي يحارب الغلو بالتحلل من الدين، وهم بذلك يسهمون في اتساع الخرق على الراقع، ويزيدون المشكلة تفاقماً، فيكون المجتمع واقعاً بين طرفي نقيض، كلاهما يحتاج إلى اجتثاث من الأصل والجذور. والخلاصة، أن الانفتاح المتزن على الثقافات، المنضبط بقيم الدين وأعراف المجتمع هو ما ننشده، ويجب أن نتفق عليه ونسعى لتحقيقه. أما غير ذلك فهو استفزاز للناس، لا يورث أمناً في النفوس، ولا استقراراً في المجتمع.