أحمد بن عبد المحسن العساف تختزن الذاكرة أقوالاً مأثورة عن المال، ولقمة العيش، والاقتصاد، فكم من قول مفاده أن المال يستر العيوب، أو أن الجوع قد يحمل صاحبه على إشهار سلاحه، أو أن الاقتصاد في اليسر خير معين ساعة العسرة، وغير ذلك من مقولات وقصص يصدقها الواقع وشواهد التاريخ. ولاشيء يؤثر في الناس أكثر من الاعتداء على كرامتهم البشرية، أو تعسير الحصول على لقمة عيشهم، فقد يصبرون على عسف الظلمة الذي يمكن احتماله، ويتغاضون عن فسوق السفلة مع بغضهم له؛ بيد أنهم يتأففون حين تُمس أرزاقهم بنقص، أو يلحق الجور حياتهم المالية، أو ينال أحد من مكانتهم حتى يغدو الإنسان بلا قيمة؛ ويُتعامل معه على أنه مجرد رقم قد يمحى، أو نسمة قد تختفى، ولذلك حدث ما حدث في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن. والوطن، لنا جميعاً، وهكذا يقال ويعلن، فخيره خير للجميع، والدفاع عنه شرف يسعى له الكافة، وحبه يسري في العروق مع مجاري الدم والأنفاس، وحين يصاب الوطن بأزمة فلا مناص من هبة جماعية للوقوف معه؛ حتى يتجاوز أزمته بسلام وأقل قدر من الخسائر، وعار أن يقف المرء مع الأعادي ضد أهله ودياره وبلاده؛ بل يعد ذلك جرماً وخيانة كبرى. ولأجل تحري مصلحة الوطن وأناسه في الحال والمآل يكتب الكاتب، ويتحدث المتحدث، وكل ذلك في جو من الأدب والتوقير ورعاية المصالح العامة، والعجب كل العجب ممن يغضبه سماع رأي صريح؛ سيق ومعه وتسبقه هالة من الإجلال والثناء والولاء، وربما أن المعني الرئيس بهذه الآراء لا يجد غضاضة في صدورها، أو سماعها، أو نقاشها. ومن الآراء الصريحة كتاب جديد، كالنذير العريان عنوانه: أزمة مالية في طور التكوين: إيرادات ومصروفات المملكة العربية السعودية، تأليف عبد العزيز محمد الدخيّل، صدرت طبعته العربية الأولى عن دار الساقي عام (2016م)، ويقع في (359) صفحة. ويتكون الكتاب من إهداء وشكر ثم مقدمة للطبعة العربية، يتلوها سبعة فصول فقائمة بالمراجع ثم عدة فهارس، والكتاب يحوي عدداً كبيراً من الأشكال والجداول؛ حتى أن فهارسها فقط جاءت في أربعة عشر صفحة. أهدى المؤلف كتابه لكل طفل سعودي يولد؛ موضحاً خوفه على مستقبل هذا الطفل مما توصل إليه من نتائج عام (2013م) حين أصدر الكتاب باللغة الإنجليزية؛ معللاً البدء بهذه اللغة إلى طبيعة الكتاب الأكاديمية، وأن هذه الدراسة أعدت ضمن برنامج زيارته البحثية في معهد الدراسات البترولية بجامعة أكسفورد، وفي كلية الإدارة بالجامعة الأمريكية في بيروت، وليته ابتدأ بالنسخة العربية اعتزازاً بلغته، وقطعاً لدابر التكهنات حول موعد صدور نسخته العربية. وأكد المؤلف في المقدمة بأن كتابه وجهة نظر غايتها مصلحة البلد وأهله ومستقبله، وتمنى أن تجد توصياته البنيوية أذناً صاغية من الدوائر القريبة من صاحب القرار النهائي، وقرر حقيقة بدهية ملخصها أن المسؤول سيحترم مستشاره الذي يصدقه بالقول والرأي، حتى لو كان فيهما ما يزعج المسؤول. كما استعرض بسرعة أزمات مالية سابقة تعرضت لها المملكة، كالتي كانت عام (1933م) بسبب نقص عدد الحجيج الناجم عن الكساد العالمي، وأزمة عام (1951م) حين زادت نفقات الدولة عن إيراداتها وبرزت نذر الإفلاس حينها، وأخيراً أزمة عام (1986م) بسبب انخفاض سعر النفط، ويخشى المؤلف أن تكون الأزمة التي يتوقعها أعنف وذات آثار سلبية متنوعة. ومن الفصل الأول حتى السادس، بذل الباحث جهداً كبيراً في تحليل الاقتصاد السعودي، ومصروفاته وإيراداته وفجواته مع سبل تمويل هذه الفجوات، واستوعب هذا التحليل تسعين عاماً (1960-2050م)، ثم صب نتائجه في حلول مقترحة، وجعلها في الفصل السابع الذي طوره في النسخة العربية، ومن الموافقات أن تكون توصيات الفصل السابع في عهد الملك السابع، والله يلهمه ومن حوله ما فيه المصلحة والخير. أشار د.الدخيّل في مستهل الفصل السابع إلى أن الحكومة تخفض مع كل أزمة مالية المصروفات الرأسمالية، وتتجنب أي تخفيض يرتبط برواتب الموظفين، وأثناء قراءة الكتاب صدرت قرارات مست الموظفين في رواتبهم، من حيث البدلات والعلاوات والمكافآت وطريقة الاحتساب ومواعد الصرف، وهذا يدل على أن الأزمة صعبة للغاية، خاصة مع ما سبقها من رفع للأسعار والرسوم، وما سيتلوها حسب التوقعات. واستخدم المؤلف ثمانية عشر سيناريو للمستقبل، بناء على مالديه من بيانات من مؤسسات مالية ونفطية دولية موثوقة، فضلاً عن التقارير والإحصاءات الرسمية، وانتهى أربعة عشر سيناريو (77% من مجموع السيناريوهات) إلى أن المملكة مقبلة على أزمة مالية خانقة، وأنه لا محيد من تغييرات حقيقية وصارمة، وأما البقاء على ما نحن عليه فقد يقود إلى مشكلات متناسلة. ويتفاءل د. الدخيّل بأن هذه الأزمة المتوقعة ليست قدراً محتوماً إذا استخدمت الحكومة استراتيجية جادة لهيكلة الاقتصاد، ووضعه على المسار الصحيح، وسعت في استثمار الثروة خاصة في بناء الإنسان العملي المنتج، والمشروعات التي تخرج الدخل من دائرة سيطرة الريع النفطي، ويضع لهذا الأمر شرطاً واحداً يتمثل في اقتناع صاحب القرار السياسي الأول وهو الملك بأن الأوضاع تسير نحو أزمة مالية، وألا مناص من هيكلة جوهرية لتصحيح الأمور. وأهم الخطوات التي يقترحها المؤلف في الهيكلة الاقتصادية هي: 1. تكوين هيئة وطنية لإعداد إستراتيجية اقتصادية طويلة الأمد، وتمنح هذه الهيئة استقلالية تامة. 2. تعرض مسودة الإستراتيجية وخططها على خبراء عالميين. 3. تعرض الإستراتيجية وخططها بعد التعديل على كفاءات محلية. 4. تعرض النسخة النهائية على جلسة خاصة لمجلس الشورى برئاسة الملك لإقرارها. وأما أهم أهداف هذه الإستراتيجية فهي كما يقترح د. الدخيّل: 1. بناء الإنسان المواطن من خلال نظام تعليمي راقي، ونظام اجتماعي وافي، ونظام صحي شامل. 2. رفع الكفاءة الانتاجية للفرد وللاقتصاد عموماً، وترشيد الانفاق. 3. تنويع مصادر الدخل، وتقليل استنزاف الثروات وعلى رأسها الماء والنفط. وتقوم التنمية الاقتصادية الشاملة على قواعد أساسية هي: أولاً: الاستقرار السياسي والأمني: وهذا يقوم على الرضا الشعبي، والحرية، والعدل، وأن الحقوق والواجبات سواء للجميع، وهذه أكبر ضمانة للاستقرار الدائم خلافاً للاستقرار المؤقت المعتمد على القهر والعسف الأمني. ثانياً: حرية إبداء الرأي دونما وجل: والغاية منها إتاحة المشاركة بالرأي لأصحاب العلم والخبرة والتفكير، فتداول الرأي يقود غالباً إلى الصحيح، ولن تؤدي هذه الحرية إلى ما يسوء لوجود نظام متبع، ومحاكم مستقلة، كما يفترض. ثالثاً: إفساح المجال للكفاءات المخلصة من المواطنين دونما تمييز: فخدمة البلد واجب يرنو له كل قادر، وقد سبق لي استعراض كتاب عن النخبة السعودية وكيفية اختيارها. رابعاً: التطوير والتحديث الفقهي: والمؤلف يؤكد على المرجعية الشرعية لكنه يتمنى مراجعة بعض الفتاوى، وتكوين لجنة مشتركة من علماء الشريعة وغيرهم من أهل الاختصاصات الأخرى لتدارس شؤون البلد، وليت أن المؤلف لم يجعل قيادة المرأة للسيارة مثله الوحيد في هذا المحور، ولست أتحفظ من موقف مسبق، وإنما لاعتقادي بأن هناك قضايا أهم، وبأن قيادة المرأة للسيارة لن تخفض استقدام السائقين تخفيضاً كبيراً. خامساً: الإصلاح السياسي: فالمواطن الآن غير المواطن قبل ثمانين عاماً، وإشراكه في الشأن العام بفعالية غدا ضرورة حتمية، كما أن أي سياسة اقتصادية رشيدة تستلزم قدراً معقولاً من الفصل بين السلطات، وخلاصة رأي المؤلف ضرورة التدرج في الإصلاح السياسي؛ دعماً للاستقرار المجتمعي، وترسيخاً لمبدأ المشاركة الشعبية في القرار. سادساً: الإصلاح الإداري: من خلال حوكمة صحيحة قائمة على سيادة القانون، والشفافية، والمسؤولية، وبذلك تتهيأ البيئة العامة للأنشطة الاقتصادية، وتوزيع المنافع، وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأبرز ما يتعلق بهذا الإصلاح ما يلي: 1. محاربة الفساد المالي والإداري لأنه أخطر معوقات التنمية، على ألا يستثنى أحد من أنظمة محاربة الفساد بمن فيهم أفراد الأسرة الحاكمة وكبار المسؤولين. 2. رفع كفاءة الموظف العام من خلال المهنية والبرامج التدريبية والتعليمية، وطرق التقييم، وهذا ماحدث في القرارات الصادرة عن آخر اجتماع لمجلس الوزراء في عام 1437. 3. تقليص الجهاز الحكومي بالدمج أو الإلغاء، ويبدو أن الحكومة ماضية في هذا الاتجاه. 4. تنشيط الحكومات الإقليمية أو المحلية لمناطق المملكة المختلفة مع التأكيد على وحدة النظام والمرجعية. سابعاً: الإصلاح الاقتصادي: وأهم مرتكزاته: 1. الاستخراج طويل المدى للنفط: ويقترح الكاتب إجراء تغييرات هيكلية في قطاع النفط والغاز، وتحويل أرامكو إلى شركة مساهمة للسعوديين فقط. كما يؤكد المؤلف على ضبط مستوى صادرات النفط وأسعاره بما يحقق استقراراً في السوق العالمي، وتسعيرة ملائمة، وفترة بقاء أطول لهذا المورد المهم القابل للنضوب، ويترافق مع مقترحه هذا تخفيض الاستهلاك المحلي من النفط والغاز برفع أسعارهما على الجميع، مع تصميم برامج دعم خاصة للفقراء. 2. ترشيد المصروفات الحكومية من خلال تقليص حجم الجهاز الحكومي، وتخفيض عدد الموظفين، وزيادة الانتاجية الفردية والمؤسسية، وإقفال المشروعات الحكومية التي لا تنتج، وخفض الصرف خارج الميزانية، وخفض الإعانات للسلع لأن أكثر المستفيدين منها هم الأثرياء؛ بحيث تكون الأسعار غير مدعومة، وينصرف الدعم مباشرة للمواطن الفقير، وآخر مقترح، وهو مهم، وحساس، ويتمثل في إنشاء ميزانية خاصة للمصروفات الملكية، على أن تعلن، ويلتزم بها من قبل إدارة المقررات أو غيرها من الإدارات المعنية، وموضوع المخصصات المصروفة لأفراد الأسرة الحاكمة يحتاج إلى إعادة نظر؛ خاصة مع زيادة العدد، وانتشار الأخبار والإشاعات، وازدياد مساحة الفقر والحاجة والبطالة، وقد أوردت بعض وكالات الأنباء أخباراً حول تنظيم هذا الأمر خلال إعداد هذه المقالة، وآمل أن يكون صحيحاً، ومستمراً. 3. إصلاح الميزانية العامة للدولة، بحيث تصدر لثلاث سنوات، مع تخليص الوزارات من سيطرة وزارة المالية عليها من خلال الميزانية؛ حيث أن وزارة المالية تتدخل في عمل كل وزارة باستثناء الوزارات العسكرية أو التي يرأسها أمير، وهذا التغول مربك للوزارات الأخرى، ويختتم الدخيّل ما يخص الميزانية بدعوته لتجديد نظام المشتريات الحكومية، وإلغاء دور الممثل المالي. 4. تطبيق نظام ضريبي فعال على أن يلزم بها الكافة بمن فيهم الأمراء، وقطع أي طريق على الاستثناءات، مع أهمية التوازن في هذا النظام بما لايرهق القطاع الخاص والأفراد، ويشير المؤلف إلى أن الضرائب ستصنع وعياً مرتفعاً، وتجعل المواطن قادراً على السؤال عن إنفاق المال العام. 5. حفظ الموارد والثروات الطبيعية كأمانة في الأعناق للأجيال القادمة. 6. استحداث هيئة وطنية مستقلة للصندوق السيادي، ويشرف عليها مجلس الشورى، ولا يصرف منه إلا في أحوال محددة بتوصية من الملك، مشروطة بموافقة مجلس الشورى. 7. خفض معدل نمو السكان، ولو استخدم المؤلف تنظيم النسل لكان أفضل من تحديد النسل، الذي يصادم الثقافة المحلية، وللتنظيم مسوغات شرعية ومصلحية خلافاً للتحديد. 8. بناء أصول وطنية منتجة طويلة المدى، ويقترح د. الدخيّل على رأس هذا الأمر الاستثمار في الإنسان تأهيلاً وتعليماً وفسحاً في سوق العمل، والاستثمار في تحلية المياه، والطاقة الشمسية، والثروة المعدنية، والسياحة الدينية، والرعاية الصحية المتخصصة، وصناعة صيد الأسماك، وصناعة البتروكيماويات، والتكنولوجيا، والشراكة مع القطاع الخاص، وله تحفظ على المشروعات الزراعية بسبب شح الموارد المائية. وأخيراً، يختم الكاتب هذا الفصل بتكرار ما قاله مراراً بأن هذه الإصلاحات بنيوية، ولا مناص لها من جرأة وشجاعة، لأن البديل مخيف؛ حيث يخيم شبح الإفلاس، وحرمان الحكومة من الانفاق المالي الشبيه بالغراء الرابط بين عدة أجزاء مختلفة. وسبق للباحث أن أشار في موضع من كتابه إلى أن الملك وكبار الأسرة المالكة، اتخذوا قرارات إصلاحية مناسبة في جميع الأزمات التي مرت عبر تاريخ الدولة، وهو ذات الموقف المنتظر منهم الآن بجرأة أكبر، وعزم آكد. والحقيقة أن بعض ما اقترحه المؤلف قد طبق أخيراً في مناحي عدة تخص أجهزة الدولة، وموظفيها، والضرائب، والأسعار، وقطاع النفط، وبعضها مدرج ضمن الخطة المعلنة تحت عنوان (2030) التي نتمنى نجاحها خلافاً لسابقاتها، ومع ذلك فقد نبه المؤلف إلى عدد من الجوانب البنيوية المهمة التي يبدو أن عامل الزمن، والمتغيرات في الداخل والخارج توجبها؛ بل توجب البدار إليها، ولا يمكن أن ينجح إصلاح الاقتصاد بدونها؛ لأن السياسة والمجتمع حلقات متصلة بالاقتصاد دونما فكاك. وهذه المقترحات ليست حصراً في المؤلف وحده، بل طالب بها وبأشياء من جنسها أفراد وتجمعات عديدة منذ بضعة عقود، وتطبيقها سيقود إلى فتح آفاق العمل المدني والمجتمعي والخيري، ورفع الأغلال عنه، وتقليص عدد المعتقلين إما بالعفو عن ذوي الأخطاء التي يمكن أن تغتفر، أو بإطلاق سراح من ليس لهم جرم، أو اعتقلوا بسبب آراء يعتقدونها، ونقاشها أمر متاح، وذلك مما يطمئن المجتمع، وينزع منه فتيلاً خطراً. إن بلادنا مقدسة، وشعبها محب لها، وفيه من الولاء ما يستحق معه التوقير، وقد بلغ من العلم والمعرفة والنضج مستوى يستحق معه المشاركة الفعلية في صنع القرار، ومراقبة المال العام، ومحاسبة المسؤولين، وهذا لا ينتقص من قدر أحد؛ بيد أنه يديم الأمن ويزيد التنمية، وهما نتيجة حتمية للحرية الشرعية والعدل الشامل. ونأمل أن تدخل الدولة بمكوناتها: المجتمع، والحكومة، والأسرة الحاكمة، والفعاليات والنخب المتنوعة، مرحلة جديدة؛ فيها تكامل وتعاون، وفيها مشاركة وعدالة، وفيها حرية ومسؤولية، وفيها تخطيط ومتابعة، وليس ذلك بعزيز على الله، وليس بصعب على التطبيق ولو بالتدريج المزّمن، والمرحلية الحقيقية غير التسويفية. أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض