إن كان الظلم مؤدياً إلى خراب العمران وزواله، فإن القيم الاجتماعية هي الحارس والمنظم الضابط للكثير من القضايا الاجتماعية والأخلاقية في المجتمعات، والإعلام بدوره يؤثر في صياغة القيم المجتمعية. والإعلام بكامل أطيافه اليوم (التقليدي والاجتماعي) يعمل على تثبيت قيم المجتمع من خلال نقلها للجمهور؛ لذلك مهما قيل في قوة تأثير الشبكات الاجتماعية وسيطرتها على عقول وقلوب الجمهور؛ إلا أن التلفزيون وما يقدمه من برامج متنوعة: دراما، توك شو، برامج الواقع وغيرها مازال هو المسيطر، حيث يعمل حسب الدراسات على تثبيت القيم وترسيخها لدى الجمهور الواسع من خلال عملية التكرار، فعرض وسائل الإعلام لقيمة معينة موجودة في المجتمع وتكرارها أو نقدها يرسخها في ذهن الجمهور. إن مقصد الحديث هنا برامج تلفزيون الواقع التي أخذت تنتشر في الفضائيات على مختلف تصنيفاتها وأنواعها ومقاصدها، والنقد الموجهة لها من قبل باحثين وإعلاميين يعملون في الإعلام المرئي مثل كريستوفر دنكلي صحفي ومذيع وناقد تلفزيوني لصحيفة الفايننشال تايمز، وفكتوريا موبليبك كاتبة ومخرجة تلفزيونية، حيث يشير المدافعون عن برامج الواقع أن طابعها الجماهيري يتيح للمهمشين فرصة جديدة للظهور على شاشات التلفزيون كأبطال ونجوم، ويُنظر إليه بأنه يقدم خليطاً من التفاهة والإباحية. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك ويصفه بتلفزيون الإذلال والمهانة، والسبب تعمده البذاءة ودفع الشرائح الواسعة من الجمهور إلى الغثيان؛ ذلك أن صناع تلفزيون الواقع يتدخلون علانية من البداية حتى النهاية ويحددون كل شيء بشكل ملائم لغاياتهم، كما هي الحال في عروض هزلية وألعاب ومسابقات وتفاهات تُقدم يعتقد الجمهور أنها تجاوزات فردية؛ وإنما هي نصوص مكتوبة سلفاً للمهرجين المشاركين في تلفزيون الواقع. إن تلفزيون الواقع الحالي كما ترى فكتوريا موبليبك هو نوع يتلصص فيه المشاهدون على الموت ومناظر بتر الأعضاء، وهو بذلك يخلق بيئة مصطنعة واضحة ثم يضع فيها الشخصيات ويحصد المتابعين. والحديث عن تجاوزات برامج الواقع يطول (…)، ولكن ما إن تظهر برامج الواقع على قناة فضائية حتى يقوم البوق الإعلامي للقناة وجمهورها بدعم المعايير والقيم التي ظهرت بمختلف أنواعها، عن طريق إعادة تأكيد هذه المعايير والقيم ومعاقبة الخارجين عنها، من خلال دعم القيم الشخصية وأنماط السلوك والأشكال لمهرجي تلفزيون الواقع، والأشد صعوبة هو محاولة دمجها مع قيم المجتمع فتدخل مضامينها حياة الأفراد؛ وهو الأمر الذي يؤدي إلى تغيير في النسق القيمي للمجتمع، عن طريق الصراع بين القيم الأصيلة والقيم المستحدثة إعلامياً. وتعتمد وسائل الإعلام في عملية التغيير على قدرتها الفائقة على استهواء الجمهور المتعرض للوسيلة الإعلامية؛ ومن ثم يصعب إقناعه بأن ما يشاهد هو مجرد خيال محض وتلاعب ولا يمت للواقع بصلة، ويظهر تأثير ذلك من خلال تقليد من تعرض لتلفزيون الواقع وقلبه فارغ من القيم لمهرجي الواقع، في الملبس والتصرفات وحتى في طريقة التعبير عن مكنونات النفس البشرية التي يشوبها الكثير من الانحدار الأخلاقي حتى وإن أَظهرت تلك الشخصيات جانب الورع وتوصي متابعيها بمكارم الأخلاق!! إن دور برامج الواقع بكل بساطة نشر قيم جديدة؛ ومن ثم تحولها إلى جزء ثابت من المنظومة القيمية للمجتمع؛ مما يحتم علينا ترشيد استخدام وسائل الإعلام، ومراقبة ونقد مضامين برامج لواقع في كل الشاشات على مختلف تصنيفاتها وأنواعها، فبرامج الواقع ليست ساعات طويلة من الترفيه، ولكنها خداع وإذلال وثقافة استهلاكية بسعرات حرارية عالية لا تؤدي وظيفة إلا أن مستهلكها يتعرض التخمة المرضية حالها كحال من أدمن تناول الوجبات السريعة مع أنها تشبع الجوع ولكنها تؤذي الصحة العامة على المدار البعيد. وأخيراً إن أكثر ما أخشاه أن يبلغ بنا التأثير، وخاصة مع تسارع أشكال مختلفة من برامج الواقع أن يتم عرض أفلام حميمية تتناول الحياة الخاصة للنجوم العاطلين من كل موهبة إلا موهبة التعري وقد بدأت بالفعل، هم يصبحون أكثر شهرة ونجومية؛ والمجتمع برمته أكثر انهياراً عندها فقط ستكون بداية النهاية لتساقط القيم التي طالما دافعنا عنها. باسل النيرب [email protected]