المزايدة بالشعوب وعليها من سمات النفاق السياسي المعاصر للحكومات، لكن فَيْصل المصداقية ساعات التحديات وحلول الأزمات بالشعوب والحكومات. والحالة التركية في 15/7/2016م نموذجٌ قويٌّ للدراسة والدروس والعبر، فمحاولة الانقلاب زلزال هزَّ العالم بأسْرِه! كما هزِّ تركيا في روحها وجسدها، ودلالاته الكبرى ودروسه العظمى في فشله الفاضح والمفضوح، ومن أهم دروسه: (قوة الشعب) بغالبيته وثقته بحكومته، وهذه القوة هي الرهان الحقيقي، كما أنها موضوع النقاش هنا لأهميتها للآخرين من دول المنطقة. لقد جاءت أحداث المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا لتؤكد أهمية (قوة الشعوب) كما تكشف في الوقت ذاته عن حقيقة تصدير الديمقراطية الغربية! حينما تأكد أكثر أن الغرب المتعصب لن يرضى عن تركيا أو غيرها ما دامت ديمقراطيتها تقودها إلى السيادة السياسية والإرادة الاقتصادية الحرة، أو أن يكون للمسلمين أينما كانوا (نموذج نجاح) سياسي واقتصادي خارج منظومة الاستعباد الدولي. ومشكلة تركيا مع أعداء نهضة المسلمين وخصومها أنها مارست اللعبة الديمقراطية بأدوات تركية خاصة بها، فلعبتها كما يلعبها الكبار إن لم يكن أكثر، لا سيما حينما أفلتت التجربة وانتخب ما يزيد على نصف الشعب حاكمه وحكومته بمصداقية وثقة، ثم أحبط المكر العالمي والكيد الإقليمي في الانقلاب، حينما حَمَى الشعب حكومته التي لا تخاف منه، بل وواجه القوة العسكرية الانقلابية المُصنَّفة عالمياً بأنها (عاشر) قوة عسكرية في العالم! حينما طردوا الدبابات المنقلبة وهاجموا الطائرات المنشقَّة، وبهذا تجاوزت تركيا بديمقراطيتها المخاطر المحدقة بها وبالمنطقة، وإن كانت لن تسْلَم من الإضرار والأذى! وكما قال تشومسكي عن هذه القضية: «لقد أثبتت الأيام بأن التجربة التركية غير مرحَّب بها أساساً في عموم الغرب، برغم كون تركيا عضواً فاعلاً ورئيسياً في حلف الناتو الآخذ بالتوسع شرقاً»! [http://bit.ly/2a9rmjY]. كما أن مشكلة تركيا مرة أخرى مع خصوم سيادة الأوطان الإسلامية ونهضتها أن تركيا أجادت فن اللعبة الاقتصادية العالمية، فلعبتها كما يلعبها المتنافسون من الغرب والشرق في بداية واعدة لشركاتها ومصانعها التنموية الصاعدة، وبهذا أصبحت تركيا رقماً صعباً في المعادلة السياسية والاقتصادية الدولية! في ظل حكم العدالة والتنمية. وتتأكد هذه الأهمية للعمل بقوة الشعوب حينما أثبت الغرب المتعصب أن ديمقراطيته المحتكرة غير قابلة للتصدير للعالم العربي والإسلامي، فهو حينما يزعم التصدير لها يريدها منزوعة الأمان والنجاح، بل ويريد منها وبها أن تكون مصدراً للنزاعات والحروب والتفكك والانقسام، كما هي الحالة العراقية والسورية والليبية والتونسية والمصرية واليمنية، وقد عبَّر عن حقيقة هذه الديمقراطية المفكر الأمريكي تشومسكي مرة أخرى قائلاً: «فالنموذج التركي لم يعد مرحباً به، وصارت أمريكا في حيرة من هذه التجربة، فالانتخابات التي تريدها الولاياتالمتحدة هي التي تلتحم فيها جماعات من المستثمرين للسيطرة على الدولة باختيار بعض محترفي السياسة الذين يستخدمون مصالحهم» [المصدر السابق]. لقد انفضحت الديمقراطية الغربية وكشفت أكثر عن ما يُسمَّى (نظرية المؤامرة) حينما أصبح الجدل حولها في مزبلة التاريخ، بعد أن أضحت المؤامرة هي الحقيقة والواقع الذي يراه الأغبياء عدا عن الأسوياء، وكفى ما عبَّر عنه ديفيد هيرست حول عمق المؤامرة في العقلية الغربية بمناسبة الانقلاب التركي الفاشل، بقوله: «لقد كان رد الفعل التركي تعبيراً عن ديمقراطية ناضجة، بينما كان رد الفعل الغربي تعبيراً عن ديمقراطية فاسدة، شوهها وأصابها في مقتل الدعم العسكري والسياسي الذي تقدمه الدول الغربية للاستبداد والدكتاتورية»!!! [http://bit.ly/29HjaEK]. ولهذه الاعتبارات تأتي أهمية (قوة الشعوب) التي تَقهر ولا تُقهر، ومحاولة الانقلاب التركية الأخيرة تُعدُّ بفشلها نموذجاً لهذه القوة، ونداء ال(سكاي بي) من رئيس الدولة لم يكن مؤثراً لولا قوة الشعب التي جعلت هذا الأسلوب البسيط كافياً لتغيير المعادلة – بإذن الله -! وتتأكد أهمية هذه القوة في عصر سيادة الأقوياء بعد أن سقطت قِيَم المجاملات السياسية! وانكشفت هشاشة علاقات الصداقة الأبدية الدولية! وأنها ليست قوة حقيقية لدول الخليج وحكوماتها، في ظل عالمٍ تحكمه المصالح دون المبادئ، وتحرِّكه العدوانية والتعصب والكراهية تجاه المسلمين تحديداً، والدعم الأمريكي المكشوف للأقليات الكردية والشيعية والحوثية والعلمانية والليبرالية والصوفية ظاهرٌ فيدعم الانقلابات وصناعة المؤامرات على دول المنطقة ودول الخليج، بالرغم من تقديمها لمعظم الطلبات واستجابتها للضغوطات، كما أن تركيا كذلك بالرغم من عطائها للغرب كثيراً من الامتيازات وبعض التنازلات، فإن كل ذلك ليس شافعاً لها لدى متعصبي الغرب وصانعي الكراهية، وكل هذا مما يُعدُّ نموذجاً لشريعة المصالح الغربية وعدوانيتها التي تحكم العالم وتتحكم به ولو بالفوضى الخلاقة! ******* وفي المقابل تأتي أهمية القراءة الناصحة والتأمل الصادق المخلص عن حقيقة (القوة المهدَرَة!) لدى دول المنطقة وأهميتها خاصةً لدول الخليج المستهدفة بالدرجة الثانية بانقلاب تركيا، بل وقد يكون بتركيا ذاتها لو نجح الانقلاب!!! فهل من لوازمَ ومتطلباتٍ أو مبادراتٍ لهذه المرحلة الفاضحة؟ لا سيما في ظل تزايد كراهية الغرب المتعصب للإسلام وأهله، وهل ستعيد حكومات المنطقة حساباتها بتقييم ولاء شعوبها ومستوى القوة والثقة؟ سيما حينما صُدمت بعض الشعوب العربية بإفشال ثورات تغيير النظام! وأخرى تحطمت كثير من آمالها بتجاهل إصلاح النظام! بل وزادت برامج وإجراءات إضعاف قوة (الدين والتدين) في نفوس الشعوب! وتكريس التهميش لها والاستبداد بحقها مما لا يزرع الثقة والولاء، عدا عن المودة والمحبة!!! وبالتالي فهي وسائل لا تثمر القوة المرجوة والمأمولة لشعوب المنطقة. وما يهم أكثر في قراءة هذا الحدث الكبير لدول الخليج المستهدفة، حيث التهام بعض دول الخليج العربي ووحدة الوطن السعودي يُعدُّ الهدف الأول للمتربصين بعد الانقلاب التركي – لو نجح – كما هي الأخطار المتسارعة والمحدقة من كل صوب، وهي أخطار في جسامتها أصبحت مبرراً لاستجداء التطبيع غير المشروع مع كيان الغدر الصهيوني!! وبعض هذا عدا عن كله مما يتطلب المبادرة والمراجعات السياسية الشجاعة لمكامن القوة لشعوب دول الخليج، والوقت ما زال يعطي فُرَصاً أخيرة للمراجعة السياسية لمكامن هذه القوة، وإن كان ذلك متأخراً جداً! والشراكة في مسؤولية إدارة الأوطان مما يمنح المسؤولية في حمايتها، وذلك من القوة المعنوية. ولئن كانت الدراسات والتحليلات السياسية ترجِّح أن الوطن الخليجي فاته الكثير والكثير من إعداد القوة العسكرية أو النووية أو السياسية والاقتصادية اللازمة نتيجة غياب المراجعات! إلا أنه قد بقي ما يمكن أن يكون الأهم والمهم!! وإذا كان من غير الممكن سياسياً لدول الخليج أن تأخذ بالنظام الديمقراطي الذي يمنحها قوة شعوبها! فإن لها ولديها قوة أخرى يُمكِنُها الرهان بها وعليها بمصداقية، حيث الدين بقوته الإيمانية وعقيدته القتالية وحشوده التطوعية وقيمه المحصِّنة بالأخذ به بقوة وصدق، و(مظاهرات حنين) بالسعودية عام 1432ه – كنموذج – أفشلها التدين حسب الواقع ووفق تصريحات القيادة السعودية آنذاك، مما يُعدُّ مثالاً مصغَّراً لقوة المجتمعات بالدين!! ولذلك فإن (قوة الشعوب) خيار المنطقة الوحيد ورهان المرحلة والمستقبل، وهو من فن الممكن المتاح؛ ولهذا تتابعت الضغوط – وما زالت – في محاولات تفريغ الوطن السعودي ودول الخليج من قوتها المعنوية الداخلية (الدين والتدين) منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001م بشكل واضح، وهو ما يتطلب الوقوف عنده! والتساؤلات تضغط بإلحاحٍ قائلة: هل سيمُرُّ هذا الحدث على الوطن السعودي ودول الخليج كغيره من الأحداث السابقة دون مراجعات جادة عملية؟ وهل إحباط المكر العالمي بتحدياته الكبرى وإفشال الكيد الإقليمي بمؤامراته الأيديولوجية التي تتقدم ولا تتأخر يمكن أن يكون بغير الدين وقوته وتجييشه للشعوب؟!! أرجو أن لا يكون كذلك، وقد أرشدنا ربنا إلى استحقاقات التمكين التي هي مصادر قوةٍ للأمة: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). كتبه/ محمد بن عبدالله السلومي بتاريخ: 1/ 11/ 1437ه