تابعنا جميعًا في الأسابيع الماضية الابتلاءَ الذي مرت به الفاضلةُ أروى العمراني بفقدها لطفلها ريان اللهيبي في حادثة غرق، وأروى رسَّامة سعودية لها شهرة واسعة وبالأخص على منصة الانستقرام، وتقدم نصائح متنوعة في حسابها ولها جمهور من شرائح متعددة، وهي بنت الأكاديمية السعودية أ.د.رقية المحارب – أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن للبنات، والمشرفة على موقع "لها أون لاين" ومركز النجاح للاستشارات، وتعد من الشخصيات السعودية العامة ولها جمهور في شبكة "تويتر" تحديدًا يفوق 400 ألف متابع جُلهن من النساء. الحادثة العرضية التي تعرض لها ريانٌ الطفل الأول لأروى، وسبط أ.د.رقية كشفت عدة ظواهر تعاني منها شريحةُ النساء المستخدِمة للشبكات الاجتماعية، وهي وإن كانت في ظاهرها تعد ظواهرَ تستحق الدراسة فهي في حقيقتها (جراح دامية) لكل راصد للساحة وحريص على المجتمع. هذه الجراح الخمسة لا تلغي المؤازرة الإنسانية المشتركة لكل من وصل له ما تعرض له الطفل والساعات الحرجة التي أعقبتها وهي الشريحة الأكبر والأكثر، ولي إلى الغالية أروى كلماتٌ يسيرة في آخر هذا المقال، لكن ما أحاول عرضه هنا هو ما تلمّحته من ظواهر قد تعد مؤشرات لما هو أكبر. أول هذه الجراح هو (تناقل الشائعات) في الشبكات الاجتماعية وتقف حائرًا وأنت تحاول تحليل دوافع من ينشر الشائعات في قضية ذات بُعد إنساني بحت كهذه القضية، ما مصلحته وما هدفه وما هي اللذة التي يجدها في ذلك؟! حيث تجلت الشائعات في بدايات انتشار خبر تعرض الطفل للغرق ودخوله للعناية، فهبت شريحة من اللواتي أنكرن الخبر وشككن به، وخضن معركة من التكذيب مع المقربات من الحدث، في موقف استثار التعجب من هذه الدرجة من الاندفاع غير المبرر، مما اضطر الأم المكلومة لنشر صورة طفلها المنوم وطلب الدعاء له، إذ لم يكن يتبقى حينها سوى ساعات يسيرة بينها وبين الفحص الأخير الذي يؤكد نجاة الطفل أو انتقاله إلى رعاية أبينا إبراهيم عليه السلام. ولم تنته الحكاية فحتى بعد أن بدأت الأم تتقبل قضاء الله في طفلها وأكدت الجدة الخبر، خرج من يواصل التشكيك والإنكار بحجة أن الأم لم تنشر في حسابها صورة تؤكد الوفاة! وهذه من عجائب ما وقفت عليه (وهو جرح وأي جرح)، حينما ترى شريحة وصلت لعشرات الآلاف تكتب تعليقًا تارة تنفي فيه الأخبار وأخرى تؤكدها، دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن المصدر والتوثق من صحة الخبر. الجرح الثاني تبدّى في ظاهرة أخرى لا زالت تنخر في المجتمع وهي تكشف عن العمى والصمم الذي تورثه (روح الصراع) بين التيارات الفكرية المختلفة، وكان هذا ممن ترك القضية الأساس وانشغل بوجهة نظر سابقة لوالدة أروى بخصوص موقفها من الابتعاث، وبعيدًا عن التسطيح الذي طُرح به الرأي، إلا أن جرحنا الدامي هنا هو (غلبة روح الصراع) على المشاعر الفطرية في ردة فعل على أم فقدت طفلها بل والانشغال بخلافات فكرية سقيمة غاب فيها فقه الاختلاف وتسيد الاستخفاف، وشُغل الناس عن اللب بقشور انساق إليها مَن انساق وتورع من تورع. أما الجرح الثالث فكان في ظواهر تكشف علاقة الشبكات الاجتماعية بأمراض القلوب من حسد وحقد، وهذا أمر سبق ورأيت دلالاته في ردود على بعض مشاهير الانستقرام ومنهن الأخت (أفنان الباتل) والتي خصصت ردًا طويلاً شرحت فيه صدمتها من وجود هذا النوع الحاسد من البشر، ولسنا في سياق شرح نتائج هذا الحسد من ضرر ففي الأوراد والأذكار ما يحمي من ذلك، لكننا في سياق تحليل كيفية مساهمة الشبكات ودور لغة الصورة في تأجيج أمراض القلوب، ومسؤولية الفرد في معالجة نفسه من هذا الداء في حال وجد أنه يحمل في نفسه حسدًا على أحد، وأول العلاج هو الهجر المؤقت للشبكة أو إلغاء متابعة من أجج الشيطان الحسد تجاهه ثم معالجة نفسه من اكتئاب الشبكات الذي يسبق أمراض القلوب، ثم تعاهد القلب بتيار إيماني يدافع صاحبه به التيار المادي البحت الذي جعل القلوب فارغة ومتقبلة لأمراض الحسد والحقد وغيرها. وما سبق يجرنا للحديث عن (الجرح الرابع) الذي كشفت عنه النقاشات وهو (الجهل الشرعي بالأمراض الروحية) وما يتعلق بها وغياب العلم فيما ثبت بالقرآن والسنة من هذه الأمراض من عين وحسد وغيره، وتاه التوسط بين فريقين، أحدهما مال إلى التضخيم وعلق الحادثة بأسباب لم تثبت ابتداءً، وآخر أنكر وجود هذه الأمراض ودور الشبكات فيها، والحق أني لا ألومهم فالخطأ هو خطأ الجهات التي تركت العلاج بالقرآن بوابة يلج منها الجميع جاهلهم وعالمهم دون تنظيم ولا تعليم. أما الجرح الأخير فهو (عدم التفريق بين التقديس والتقدير)، وهو أمر يعاني منه المتصدرون وأسرهم، فعوضًا عن الإفادة من المتصدر في العلم الشرعي، تجدهم ينقبون عن حياته وأسرته ويتسقطون الزلات وبعض الأمور الخلافية ليجعلوها مبرراً للطعن في المتصدر نفسه، وكأنهم يعاقبونه على بذله جهده ووقته لهم، وسبق واشتكت لي عدد من الزميلات من ذلك مما جعلهم يعتزلون الظهور تمامًا فهالة القداسة التي يحيطها بهم الناسُ لا علاقة لها بالتقدير الواجب لأهل العلم الشرعي، بل حتى أسرهم تكون تحت المجهر وتجد هناك من يطالب الابن بمطابقة أبيه والبنت بمطابقة والدتها، مما يجعل الأبناء في حال ضيق على تحمل أمر ليسوا ملزمين به. وكل تلك الجراح لم تكن تشغلني عن مصاب أروى، فكنت ممن ذرفت دموعه وكتم حزنه، لكني لم أكن قلقة عليها البتة فيقيني بلطف اللطيف وأنه ينزل مع الابتلاء صبر بقدره، جعلني أسكن وأطمئن وأستودع قلبها ربي الرحيم، أما ريان فلم يمت، هو يعيش في رعاية أبينا إبراهيم عليه السلام في الجنة، ويعيش في قلب أروى في الدنيا، ومها حاولت الدنيا نزع أحبابنا منا سيبقون أحياءً في قلوبنا، وسيكون الملتقى في بيت الحمد -حسن ظن بالله- حيث لا وصَب ولانصَب ولا تعَب، ولا جراح. ————- [email protected]