كثيرا ما ردد المختصون عبارة "العالم بعد كورونا لن يعود كما كان قبل كورونا" والحديث عن الصحة والنشاط البدني والمشي بعد كورونا ستسيطر عليه الأنماط الجديدة للحياة كما فرضتها كورونا على العالم. أتناول في هذا المقال: * كيف ستتأثر ممارسة النشاط البدني في ما بعد كورونا؟ * كيف سيتأثر المشاة في عالمنا، ومنطقتنا والمملكة بما حدث؟ * كيف نستمر في استثمار رياضة المشي في تعزيز الصحة؟ * ماذا اتخذ العالم من خطوات بهذا الصد يمكن التعلم منها؟ * كيف سنتأقلم مع "احترازات كورونا" في دعم المشي والمشاة؟ لقد فشلت كثير من دول العالم في تجنب آثار كورونا بسبب هشاشة الأنظمة الوقائية، والإمعان في التناول العلاجي البحت، وشَّكل انتشار الأمراض المزمنة والسمنة والتدخين وغيرها من "أمراض النمط المعيشي" عاملا حاسما في ارتفاع نسبة من يصابون أو يتأثرون أو تهدد حياتهم هذه العدوى الفيروسية، بينما هذه المشكلات "ذات المنشأ السلوكي" ليست معضلة تشخيصية ولا يصعب التنبؤ بالإصابة بها. وفي بريطانيا، ومع بدء تخفيف تدابير العزل العام، جاء في تقرير إخباري، أن السمة الغالبة على الشوارع في بريطانيا أنها ستصبح مزدحمة بالدراجات الهوائية، وسيتوجب على المواطنين المشي وركوب الدراجة كوسيلة نقل بديلة عن القطارات والباصات داخل المدن البريطانية. جاء في التقرير الإخباري أن "القرار الصادر عن حكومة بوريس جونسون يهدف بشكل كبير إلى تقليل أعداد الركاب في وسائل النقل العام للحفاظ على مسافات التباعد الاجتماعي حتى بعد رفع تدابير العزل وفتح المجال العام". وجاء في التقرير أيضا "تخصيص حزمة مالية قدرها ملياري جنيه استرليني من أجل وضع قيادة الدراجات الهوائية والمشي في قلب سياساتنا لنظام جديد للمواصلات العامة". هذه الأموال ستستخدم لتجهيز البنية التحتية البريطانية لاستقبال أعداد أكبر من الدراجات الهوائية وبناء شبكات طرق تخصص للدراجات الهوائية بطول 200 كيلومتر في كل مدينة كبيرة، بالإضافة إلى توفير وتسهيل بيع الدراجات الهوائية للمواطنين". وبمثل هذه الإجراءات على مستوى العالم ستتحول هواية رياضة ركوب الدراجة إلى وسيلة رئيسية للتنقل في المدن وخصوصا في المدن الأكثر ازدحاما. وطبقا للإحصاءات الحكومية البريطانية أيضا فإن كل زيادة مقدارها 5% في أعداد راكبي الدراجات الهوائية سيقابلها انخفاض في أعداد السيارات قدره ثمانية ملايين سيارة، بالإضافة إلى تخفيض تسعة ملايين رحلة قطار. ولي أن أتساءل عن أثر تشجيع المشي داخل المدن لكل مشوار يتراوح بين 3 و5 كيلومترات؟ فبمثل هذه الإجراءات التي اتخذتها بريطانيا يستعد العالم لتغيير نمط الحياة بشكل دائم وأكثر ملائمة لتعزيز الصحة في المستقبل. في عالم ما بعد كورونا سيكون التوجه نحو تشجيع المشي وركوب الدراجة كوسيلة مواصلات توجها عالميا، ليس فقط في المدن عالية الازدحام بل حتى في المدن ذات الكثافة السكانية الأقل. في عموم السعودية وعلى مدار 8 أشهر في السنة يعتدل الجو بشكل يسمح بالمشي في الهواء الطلق، فالثنائية التي أدعو للاهتمام بهاء؛ البنية وتصميم المدن من جانب، الاهتمام بالتوعية بأهمية النشاط البدني والمشي تحديدا وركوب الدراجة كوسيلة نقل من الجانب الآخر. أما مشكلة حرارة الجو التي يتحجج بها الكثيرون فليست العائق الحقيقي، فكل شعوب الكرة الأرضية كانت ولازالت تمشي وتستخدم الدراجات. وعن أهمية التوعية قلت ذات يوم "ظلت الهيئة الملكية في ينبعوالجبيل حوالي 40 سنة بيئة آمنة ومشجعة ومصمصة للمشي وركوب الدراجات، وكنت ولا زلت أزورها مرات كل عام، ولَم أكن ألحظ فيها أحدا يمشي، ولَم أكن أرى إلا الدراجات الهندية التي تستخدمها العمالة هناك. وبعد جهود التوعية والنشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار مجموعات المشي والدراجات بدأ واستمر المشي للصحة والرياضة في الجبيلوينبع على مدار العام". إن ضعف الوعي بأهمية الصحة كقيمة وكون الصحة دائما في خانة "هام غير عاجل" من أهم الاسباب في أننا لا نمشي ولا في أحسن اشهر السنة ملاءمة من حيث الطقس، وسنحتاج لكل الوسائل لإقفال #صندوق_الاعذار وإلا سيتحقق ما توقعه المتخصصون من تزايد نسب الأمراض المزمنة، وأن يصاب 50% من سكان السعودية بالسكري مع حلول عام تحقيق الرؤية 2030. السؤال المهم، هو كيف تتأقلم المجتمعات مع متطلبات النشاط البدني والمشي بعد كورونا؟ وكيف يعود الأفراد والمجموعات إلى نشاطات المشي بعد كورونا؟ وكيف يعود العمل على رفع معدلات ممارسة النشاط البدني والمشي بعد كورونا؟ لا أجد إجابة محددة ومباشرة على مثل هذا السؤال، لكن هناك حاجة للإبداع والتماشي بذكاء مع الاحترازات الوقائية من فيروس كورونا المستجد، وتشجيع النشاط البدني والمشي بكافة الإمكانات لرفع المناعة وتحسين الصحة العامة، دون الوقوع في انتكاسات تعيد كورونا إلى الواجهة. يكمن التحدي الحقيقي في إيجاد حلول وأفكار إبداعية في العمل التوعوي وتغيير السلوك، وأرى أن على رأس هذه الحلول تغيير بنية وتخطيط الأحياء السكنية لتمكين العائلات والأطفال من الاستمتاع بالمشي في البيئة المجاورة. فقد رأينا في وقت الحظر كيف تسبب هدوء حركة السيارات في تشجيع السكان على المشي في الأحياء السكنية بشكل واضح، وخف عن الكثيرين عبء التنقل والذهاب إلى المضامير والحدائق. ويمكن مرحليا التركيز على تعديل البنية وتصاميم المدن بأقل كلفة بهدف تحسين بيئة المشي، ومن هذه الحلول على المستوى القريب والمتوسط ما يلي: * إعادة تأهيل أرصفة المشاة وضمان جودتها واستمراريتها ولو كلف ذلك إطالة بعض المسافات التي يقطعها قائدو المركبات. * إجراءات التهدئة المرورية للسيارات، وتمكين المشاة من المشي في الأحياء. * تغيير مسارات السيارات لتخصص بعض الشوارع لاستيعاب أعداد كبيرة ومتباعدة. * تخصيص شوارع كبيرة محددة بضع ساعات آخر الأسبوع للمشي والرياضة. * تحويل الأحياء السكنية من شوارع متقاطعة "طولية وعرضية" إلى حارات مغلقة بمدخل واحد أو مدخلين فقط متاحة للسيارات، واستثمار الأجزاء المغلقة من الشوارع في خلق بيئات خضراء ومبسطة للترفيه والتواصل الاجتماعي والنشاط الرياضي للعائلات والأطفال. أما في جانب الاهتمام بالتوعية بالنشاط البدني والمشي، فأرى توجيه نشطاء التوعية وأصحاب الخبرات والتجارب، والمهتمين بالوقاية والتوعية في القطاع الصحي بالتركيز على الأفكار التالية: * تشجيع المشي الفردي. * مشي المجموعات بأعداد قليلة. * تشجيع تكوين مجموعات المشي صغيرة العدد بشكل أكبر. * تشجيع مجموعات صغيرة على المشي في الطبيعة مع التباعد. * إنشاء وتشجيع تحديات المشي الاليكتروني. * التوسع في العضويات الإلكترونية. * مشي العائلات وشباب العائلات. * المشي الفردي مع البث والتصوير والتحفيز. * اللجوء إلى المسارات الأبعد عن التجمعات السكانية * التشجيع على مشي المسافات الطويلة بأعداد محدودة ومتباعدة. إن من شأن تشجيع المشي وتأمين سلامة المشاة والدراجين في ما بعد كورونا أن يحسّن الصحة العامة، ويخفف وطأة الضغوط النفسية التي صاحبت جائحة كورونا بعبئها الاقتصادي والاجتماعي. كما سيضيف إيجابا إلى تحسين البيئة وتخفيض حرارة الجو كما رأينا في زمن كورونا. د. صالح بن سعد الأنصاري الأستاذ المساعد في طب الأسرة والمجتمع المشرف على مركز تعزيز الصحة